ليتنا لا نذكر ولا نتذكر

TT

أتذكر، بأسى شديد، بعض التجارب التي تحملت فيها مسؤولية في الصحافة. أتذكر كيف كان أكثر الزملاء يبددون الوقت في انتقاد بعضهم البعض. ليس في نقد العمل والإنتاج بل في إعلاء الصغائر. وكان الوقت، أعظم وأهم ما في الحياة، يضيع مثل الرمل والغبار وزبد البحار. وكنت أتسلم المسؤولية ثم أتركها، والزملاء لا يزالون يتحدثون. في المكتب يتحدثون. وفي الطريق يتحدثون ويلتقون معاً على الغداء ثم على العشاء ويتحدثون. و«يركبون المقلاة» تلو الأخرى.

ويحزنني أن أكثرهم لا يزال يتحدث حتى الآن. ودوماً عن الآخرين. ودوماً عما يعملون ويكدون. وهم لا يعملون شيئاً سوى فقع الوقت كالصابون. كأنه عبء، أو كأنه لعنة. ويؤلم أكثر ما يؤلم، أن بعضهم كان على موهبة كثيرة، وعلى معرفة كثيرة، وهما طريق مستقيم إلى النجاح. لكنه أصيب بداء الكلام وبداء السخرية من الآخرين وبداء مراقبة جميع الناس إلا نفسه ووقته وثروته، أي موهبته ومعرفته.

وانتهى الأمر في الضياع. لم يبق شيء من الثرثرة سوى الندم. ولم يبق شيء من مراقبة الناس سوى الهم والغم واجترار مرارة اليأس وذوبان العمر في أتون فارغ. كانوا يعتقدون أنهم يحرقون سواهم فإذا بهم لا يحرقون سوى أنفسهم وما ملكوا من وقت وما أعطوا من قدرة على الإنتاج والاستثمار. وحتى القليل من الوقت الذي أهدرته في تلك الدوامات الفارغة، أشعر بندم شديد عليه. وصحيح أن بي مرارة من أجلهم، لكن أيضاً بي مرارة شديدة بسببهم. فقد كان في إمكاننا أن نكون فريق عمل واحداً بدل أن نكون فرقة كرة بلا أهداف وبلا سعي وبلا قواعد وبلا حب للنجاح، بل بكره واضح للناجحين وازدراء معلن للعاملين.

وكان بعضهم يقود فريقه، كل يوم، نحو سبل إعاقة العمل. وكان يرسم لفريقه كل شيء، إلا طريق الإنتاج. وفي النهاية لم يؤذ سوى نفسه وفريقه. وبكل مهنية وصدق، أتطلع في كل تلك الإمكانات ويحزنني ضياعها، ويحزنني أنها فقدت موقعها في المهنة. من أجل ماذا؟ من أجل جلسة ثرثرة فوق ذبيحة من الوقت. ولا أعرف كيف ينظرون اليوم لما أهدروا من سنين وأيام، لكنني آمل، بكل صدق أيضاً، أنهم لم يفيقوا من عشق الثرثرة وتكديس الغم بمراقبة الآخرين. لأنهم إن أفاقوا سوف يكون الندم فظيعاً. وهو لم يعد ينفع. ثمة شيئان لا نستطيع استرجاعهما: الوقت المبدد والكره المجاني.