ألف باء الأزمة الحكومية اللبنانية: الوحدة الوطنية كفن للوحدة الوطنية

TT

لم يعد تشكيل الحكومات في لبنان يتّم من خلال القواعد التي يحددها الدستور وينص عليها صراحة. ولم يعد كذلك يتم من خلال التفاهم بين الأفرقاء السياسيين في لبنان، أو عبر الشعارات والتصريحات والمواقف، التي تملأ أعمدة الصحف، كما يحصل الآن، وخصوصا عندما يتصل الأمر بالدعوة إلى حكومة الوحدة الوطنية التي تشكل مطلباً جماعياً.

تشكيل الحكومات في لبنان صار مسألة عويصة تتقاطع فيها المواقف والشروط الإقليمية مع المواقف والرياح الدولية، وهذا يعني عملياً أن عملية تشكيل السلطة في هذا البلد المتعوس هي بمثابة مبارزة سياسية خارجية على حلبة داخلية، وهذا يعني استطراداً أن لبنان بات ساحة للآخرين أكثر منه وطناً لأهله وأبنائه.

لا ينطوي هذا الكلام على أي مبالغة، فعندما قدم الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري اعتذاره عن التشكيل إلى الرئيس ميشال سليمان في العاشر من سبتمبر (أيلول) صاح الكثيرون بامتعاض: ولكن من يقدم اعتذاره إلى اللبنانيين، بعدما ثبت أن الشروط التعجيزية التي وضعتها المعارضة للقبول بدخول الحكومة لا يمكن قبولها بأي شكل من الأشكال، وأنها كانت مجرد تعبير عن أمرين محليين وأمر خارجي ثالث يتلطى وراء هذين الأمرين.

ما هما الأمران المحليان؟

أولا: إجهاض المفاعيل السياسية لنتائج الانتخابات النيابية الأخيرة التي شكلت فشلا مفاجئاً لحسابات المعارضة، وبالتالي إسقاط مفاعيل فوز الأكثرية على صعيد تكوين السلطة التنفيذية.

ثانياً: إسقاط وهج الانتصار الذي حققته الأكثرية وسعد الحريري شخصيا، ومحاولة استنزاف الرئيس المكلف في الحكومة الأولى التي يحاول تشكيلها، وعلى أبواب استحقاقات دقيقة وحاسمة ومهمة تفرض وجود حكومة قوية تستند إلى الوحدة الوطنية الحقيقية الصادقة التي رفع الحريري شعارها حتى قبل أن يتم تكليفه.

وما هو الأمر الخارجي؟

إنه مجرد نتيجة عملية للصراع على لبنان بين محور «دول الممانعة» أي سوريا وإيران من جهة وبين الولايات المتحدة الأميركية من جهة ثانية، وإن كان البعض يحاول هنا زج اسم مصر والسعودية أو ما يسمى «محور الاعتدال» في الموضوع، ولكن من دون أي قرائن أو إثباتات مفهومة!؟

معروف أن هذا الصراع اندلع بعد صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن، الذي دعا إلى خروج الجيش السوري ثم استمر في الأعوام الماضية، حيث برز في شكل سافر في خلال الحرب العدوانية الإسرائيلية على لبنان و«حزب الله» صيف عام 2006.

ومنذ أعلن مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، أنه يجب إلحاق الهزيمة بأميركا في لبنان، ردا على قول وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس، إن لبنان يمثل خط الاعتدال في مواجهة خط التطرف في المنطقة، تحول الوطن الصغير ساحة للقتال بين الاستراتيجيتين المتنافستين في المنطقة، حيث ألّبت سوريا وإيران حلفاءها اللبنانيين، أي المعارضة التي تحمل اسم تجمع 8 آذار، ضد تجمع 14 آذار الذي نشأ إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط من عام 2005، وذلك على شكل انتفاضة تدعو إلى الاستقلال والسيادة والحرية.

منذ ذلك الحين، بات لبنان أسير الصراع الخارجي، ولكن عبر اصطفافات لبنانية داخلية، تبرز في شكل مثير في مواقف المعارضة، التي عطلت الحكومة منذ عام 2005 إلى عام 2009، وفرضت بقوة السلاح نظرية «الثلث المعطل» في الحكومة، وهو ما تم التوصل إليه في «اتفاق الدوحة» بعد اجتياح «حزب الله» المنطقة الغربية من بيروت.

قام الاتفاق على أن يكون «الثلث المعطل» في يد المعارضة داخل الحكومة، ولكن لمرحلة انتقالية تنتهي مع الانتخابات النيابية التي تمت قبل أشهر، والتي يفترض أن تسقط التشكيك بالأكثرية.

كانت حسابات المعارضين وكذلك السوريين والإيرانيين أن المعارضة ستربح هذه الانتخابات، ولكن النتائج جاءت معاكسة فظلت الأكثرية أكثرية لا بل وسعت من مساحة تمثيلها العام.

وفي ظل بدايات تحسن في العلاقات الأميركية ـ السورية المتأزمة منذ أعوام، بدأت عملية تكوين السلطة التنفيذية بعد الانتخابات في جو واعد، حيث تمت تسمية النائب سعد الحريري رئيسا مكلفا تشكيل الحكومة.

وعلى إيقاع الحراك الحذر والبطيء على المسار السوري ـ الأميركي، اضطر الحريري أن يصرف شهرا من المشاورات والمساعي والجهود توصلا إلى ما سمي صيغة 15 + 10 + 5 أي حكومة ثلاثينية حصلت فيها المعارضة على «الثلث المعطل» من خلال حصة الرئيس ميشال سليمان تحت طائلة رفض المشاركة في الحكومة وما يعنيه ذلك من الثبور وعظائم الأمور!.

لقد حصل كل هذا التعقيد رغم أن الدستور يعطي الأكثرية حق الحكم والمعارضة حق المراقبة والشعب حق المحاسبة. ولكن الحريري الذي واظب دائما على سياسة مد اليد والسعي إلى فتح صفحة جديدة تساعد على قيام تفاهم ثابت وصلب بين اللبنانيين، في مواجهة الاستحقاقات الداخلية المتعاظمة كالأزمة الاقتصادية والدين العام، كما في مواجهة الأخطار والتهديدات الإسرائيلية، لم يتردد في الدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تلم الشمل وتكون قادرة على العمل.

كان هذا هو الشعار الذي رفعه قبل التكليف وسعى إلى تحقيقه في عملية التشكيل، التي اصطدمت بعقدة ثلاثية مركبة:

الشروط التعجيزية التي رفعها الجنرال ميشال عون. وتمترس المعارضة وراء عون رغم حصولها على صيغة 15 +10 +5 ووراء كل هذا الموقف السوري ـ الإيراني الذي يريد إفهام أميركا أن القرار في لبنان لا يأتي من الانتخابات ومن إرادة اللبنانيين وإنما من الأيدي التي تملك القدرة على الحل والربط فيه!

وضع سعد الحريري لدى الرئيس ميشال سليمان «وديعة حكومية» كانت عبارة عن صيغة تشكيلة تعطي المعارضة حصة راجحة لم تكن لتحصل عليها حتى لو كان عون هو الذي يشكل الحكومة. ولكن سياسة الرفض والتعطيل ظلت قائمة إلى أن صعد الحريري وقدم اعتذاره عن التشكيل في العاشر من أيلول.

اعتذار الحريري كان عبارة عن موقف سياسي ووطني وأخلاقي مسؤول، خلافاً لكل الاتهامات والافتراءات التي تنصب عليه من أوركسترا الداخل والنوتة الخارجية المعروفة جيدا.

إنه موقف مسؤول لأنه يحترم إرادة اللبنانيين المعبّر عنها في الانتخابات. وينتشل الدستور من التعفير في وحول التفسيرات والاجتهادات، ويحفظ هيبة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وصلاحياتهما، ولأنه يحاول مرة أخرى فرملة إذعان ميكانيكية تشكيل الحكومات في لبنان إلى دفتر الشروط الخارجي!

ولكن إعادة تكليف الحريري تشكيل الحكومة عشية عطلة عيد الفطر المبارك، لا تعني الآن بأي شكل من الأشكال أن العقد زالت وان سياسة التعجيز انتهت وأنه يمكن الوصول إلى حكومة وحدة وطنية بسرعة. والدليل هو مسارعة قوى المعارضة إلى التمسك بشروطها السابقة تعطيلا وتعجيزاً. وهو ما قد يفتح الأبواب على إمكان تشكيل حكومة أقطاب أو حكومة تكنوقراط لأن البلاد لم تعد تحتمل الاستمرار في ظل سلطة تنفيذية تقتصر صلاحياتها على تصريف الأعمال.

وما لا يفهمه المواطن العربي من المحيط إلى الخليج، هو في الواقع لغة التعمية التي تغلب على الخطاب السياسي الراهن في ردهة المسألة الحكومية. بمعنى أن المعارضة تسابق سعد الحريري في الحديث عن «حكومة الوحدة الوطنية» التي طالما مثلت شعاره حتى قبل التكليف.

ولكن عندما تصبح حكومة الوحدة الوطنية مجرد شعار للتمويه ترفعه المعارضة كقناع لإخفاء مطالبها التعجيزية، فإن ذلك لا يعني سوى أمر واحد: ذبح الوحدة الوطنية بسكين الوحدة الوطنية. فالوطن الذي يصير حلبة لصراع الآخرين يتحول مسلخا للديمقراطية والدستور كما تتحول «الوحدة الوطنية» كفناً للوحدة الوطنية.