معادلات الشرق الأوسط تحت رحمة «الليكود»

TT

«الوسيلة الوحيدة التي تكفل لمن يوافقونك الرأي حرية التعبير عن آرائهم، هي دعمك حرية التعبير عند مخالفيك»

(إليانور هولمز نورتون)

كان الأسبوع الماضي مثيرا لرصد اتجاهات الرياح الدولية، وبالذات، في ما يخص أزمات الشرق الأوسط، وفي مقدمها الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والطموح النووي الإيراني، وتصور العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي.

لقد كانت الخطب الملقاة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مناسبة للقراءة في المواقف العلنية. في حين أن المواقف المُضمَرة والنيات الحقيقية، وهي الأهم طبعا، تعتمد على جملة من العوامل، بينها: استثمار الوقت، واستغلال الأمر الواقع، والقدرة على ممارسة الضغط، والقدرة على إدراك كل لاعب ما لديه من أوراق رابحة وخاسرة في لعبة الأمم.

وإذا كان ليس لأحد بأن يشكك بأهمية مضمون خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما، فالواضح أن أوباما ـ حتى قبل اعترافه ـ باستحالة مواصلة «الأحادية القطبية» لم يظهر بمظهر المنتصر فوق أهم منبر سياسي في العالم. فهو يواجه في الداخل الأميركي يمينا فاشيا وعنصريا لا يخجل من شيء ولا يتورع عن شيء، ومجتمعا تجاوز منذ زمن بعيد مرحلة التفتيش عن الحلول عبر الجدل الآيديولوجي، وشعبا اعتاد على النسيان والتناسي، حيث يجب الاتعاظ والتعلم.

وفي مقارباته الدولية يكتشف كم كان إرث حقبة جورج بوش الابن ثقيلا وكريها، سواء على صعيد الشراكة مع «الكبار» الآخرين أو مع العالم الإسلامي، الذي أساءت الإدارة الأميركية السابقة التعامل مع مرضه المقيم، فجعلت منه كله «مشكلة وجودية».. وفاقمت مرارته، ووفرت للقوى الظلامية فيه خير مبرر لخطف زمام المبادرة الأخلاقية والنضالية.

المشكلة مع الرئيس أوباما، سواء كما ورد في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة أو في نقله المواجهة مع إيران إلى مستوى أعلى في أعقاب «الكشف» عن مفاعل قُم، هو أنه ما زال يركز على المبادئ من دون تقديم الحل العملي.

ففي موضوع فلسطين وإسرائيل، كان الكلام جميلا لكنه لم يقترح آلية ولو على غرار «مؤتمر مدريد» الطيب الذكر. بل إن نيات الخطاب الحسنة جاءت باهتة أمام خلفية تنازلات متتالية في السر والعلن لحكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف تكاد ـ إن لم تكن فعلت ـ تفقد مهمة جورج ميتشل أي حظ في النجاح.

أكثر من هذا، وبغض النظر عن مشاعر واشنطن إزاء الأنظمة العربية المعتدلة، بما فيها تلك التي تعتبرها أنظمة صديقة، وعما إذا كان الوزير فاروق حسني جديرا بمنصب مدير عام اليونيسكو أم لا، كان وقوف واشنطن ضده تحت وطأة هجمة بنيامين نتنياهو وزبانية «اللوبي الإسرائيلي» في أوروبا وأميركا.. معيبا.

والمؤلم في الموضوع أن هجمة اليمين الإسرائيلي المستقوية بـ«تفويض ديمقراطي» ـ غير متيسر عند العرب ـ عذر مقبول وقابل للتسويق غربيا. ولقد سبق للإدارات الأميركية والحكومات الغربية المتعاقبة، أن اختبأت خلفه لتبرير امتناعها عن اتخاذ أي موقف زاجر أو حاسم ضد إسرائيل. مع العلم، أن هذا التفويض ولاسيما حيال الأراضي المحتلة أشبه ما يكون بإجراء «المافيا» اقتراعا داخليا بين لصوصها حول ما إذا كان عليها إعادة مسروقات أم لا.

فهل من احتل أرض الغير بالقوة يُستفتى على إرجاعها؟

انطلاقا من هذه الصدقية الغربية المنهارة، يأتي التصعيد المتأخر مع إيران، بعد سنوات من المناورات والإشارات المتناقضة.

قد يقول قائل إن الظروف تغيرت. وهذا صحيح. فعندما كان محمد خاتمي يرفع صوت الاعتدال ويدعو إلى الحوار في طهران.. كان «المحافظون الجدد» في واشنطن يتنكرون للاعتدال الإيراني الهش. والآن بعدما دخل المعتدل أوباما إلى البيت الأبيض سقطت طهران في أيدي الحرس الثوري و«الباسيج».. وخون الإصلاحيون.

ولكن هل تتوقع منا عواصم القرار في الغرب أن نقتنع، بأن تحولات من هذا النوع تحولات مفاجئة؟

أصلا، هل كان تنامي قدرات المؤسسة الأمنية والتيارات المحافظة في إيران مباغتا لواشنطن أيام بول وولفويتز وريتشارد بيرل ودوغلاس فيث وديفيد وورمزر ومن لف لفهم؟ ألم يكن الخبراء في مراكز الأبحاث يحللون التغييرات الجيوبوليتيكية في المنطقة، ويحسبون أثمان «تغيير الأنظمة» و«إعادة رسم الخرائط» و«الدومينو» و«ملء الفراغ».. ويخططون لمشاريع ابتزازية وتقسيمية.. لها في نهاية المطاف غاية استراتيجية واحدة ومستفيد واحد؟

إن من السذاجة بمكان التصور أن السماح لإيران، بالتمدد في المنطقة كان مفاجئا. ربما، كانت بعض تفاصيله مفاجئة.. لكنه ككل ليس مفاجئا. ولذا كان هناك رهان على تغيير «عقلاني» ما من ضمن النظام الإيراني يقبل بشروط وأثمان معقولة لصفقة إقليمية معه. غير أن قدرة غلاة المحافظين على مجابهة «الإصلاحيين» بالتشكيك في نيات الغرب واستخدامهم القضية الفلسطينية «بوابة دخول» لقلب معادلات تاريخية وعقائدية في العالم الإسلامي كله، ساعداهم على حسم معركتهم ولو مؤقتا داخل إيران، ورفع أسهمهم ـ أيضا مؤقتا ـ في أنحاء عدة من العالم الإسلامي.

كلمة السر هنا ليست إيران، التي يهم الغرب في الآتي من الأيام الاستفادة منها في مواجهات استراتيجية مقبلة، وبالتالي، يهمه المحافظة على وحدتها.

إنها إسرائيل.

فطالما أنكرت القيادات الغربية بأن استمرار الرضوخ لمشيئة مخططي السياسة الإسرائيلية، داخل إسرائيل وخارجها، يقوي منطق التشدد الإسلامي.. عربيا كان أو تركيا، باكستانيا كان أو إيرانيا.. فهذا بالضبط ما سيحدث.

ولئن كانت «البراغماتية» الإيرانية شجعت في الماضي القريب بعض الغرب بالتفكير بصفقة إقليمية كبرى، فها هي «الديمقراطيات» الغربية تلعب اليوم في «حلبة» خطيرة، ربما كانت تسعى إليها.. أو قد يكون استخفافها في قضية حقوق الإنسان قد جرها إليها.

أما اللاعبون الذين عليها التعامل معهم فهم إسرائيل نووية موغلة في التطرف، وإيران شبه نووية يسعد قادتها الحاليون بعدهم عن الاعتدال، وعالم عربي محبط ومنهار ومفتوح على كل الاحتمالات، وقوى «قاعدية» تنفس عن إحباطه وإحباط عشرات الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.. وتستثمره، حيث وجدت لها موطئ قدم.