ما وراء اتهام العراق لسوريا والوساطة التركية

TT

كان لا بد لرئيس الحكومة العراقية من أن يرد على التجمع السياسي الجديد للأحزاب الشيعية، تمهيدا لكسب المعركة الانتخابية القادمة عليه. ولذلك وجد في إثارة موضوع التفجيرات الأخيرة في بغداد، ورقة سياسية قد تساعده على تحقيق مشروعه الوطني العراقي الجديد الذي تعارضه الأحزاب الشيعية والكردية. والذي لم يعرف، بعد، موقف الأطراف الخارجية الأخرى الفاعلة في العراق، وعلى الأخص الولايات المتحدة وإيران، منه.

و لكن ما فوجئ به الجميع هو تحميل المالكي سوريا مسؤولية إيواء وتسهيل نشاط عناصر قيادية للمقاومة العراقية. الأمر الذي نفته الحكومة السورية، وذكرت بأنها فتحت صدرها لمليون لاجئ عراقي إلى أراضيها. وهو رد اعتبره المراقبون كاشفا عن نصف ـ الحقيقة، كما هو الاتهام. ذلك أن المقاومة في العراق ليست مقتصرة على بعض القياديين البعثيين العراقيين اللاجئين إلى سوريا، بل هناك، وباعتراف الجميع، عدة أنواع من المقاومين بل عدة أهداف للمقاومة وعدة دول أخرى تدعم هذه «المقاومات».

والمستغرب أيضا، كان في سماح إيران لهذه الأزمة العراقية ـ السورية أن تنشب، وهي صديقة وحليفة حالية ومستقبلية للبلدين الجارين. والمستغرب، أكثر فأكثر، هو أن تنشب هذه الأزمة بعد انسحاب القوات الأميركية من المدن العراقية، وحدوث الأزمة بين المحافظين والإصلاحيين في إيران، التي طرحت أكثر من علامة استفهام فوق مشاريع تصدير الثورة الإيرانية إلى المنطقة.

أما مسارعة تركيا في التوسط بين بغداد ودمشق، فكان أمرا طبيعيا نظرا لمصلحتها الحيوية في أن يبقى العراق موحدا ولا يتحول الحكم الذاتي الكردي إلى استقلال أو انفصال تمتد عدواه إلى أكرادها وعلوييها. وأما موقف الولايات المتحدة من هذه الجبهة الجديدة التي فتحتها الحكومة العراقية على سوريا (كمقدمة لفتح جبهات على دول أخرى متدخلة في العراق، كما صرح أكثر من مسؤول)، فلا يبدو حتى الآن واضحا. فمن الراهن أن واشنطن لها أكثر من مصلحة في استقرار الوضع في العراق، قبل أن تسحب قواتها عام 2011. لا سيما أن همها الأول في محاربة الإرهاب انتقل إلى أفغانستان وباكستان. ولكنها في الوقت نفسه لا تريد وقوع العراق كليا في قبضة إيران، بالإضافة إلى همها الآخر وهو تعطيل الدعم الإيراني ـ السوري لمعارضي مشروع السلام في الشرق الأوسط.

إن الدخول التركي بهذا الزخم إلى منطقة الشرق الأوسط، بعد قرن تقريبا من تقلصه عنها، إثر سقوط السلطنة العثمانية، بات لافتا. لاسيما أن الحكم «الإسلامي ـ الديموقراطي» فيها لم يتراجع عن طلبه الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولم يقطع علاقاته التعاونية مع إسرائيل، ولا أدار ظهره للولايات المتحدة. بينما الدخول الإيراني إلى المنطقة، بعد قيام الثورة الخمينية، كان واضح المعالم والأهداف وله تأثيرات مباشرة على تحالفات دول المنطقة وعلى الأوضاع السياسية الداخلية في أكثر من بلد عربي، كلبنان وفلسطين والعراق، ناهيك بتأثيرات «خفية» على الاستقرار السياسي في دول أخرى.

وهنا يبرز سؤال أول: هل هناك تنافس إيراني ـ تركي، على النفوذ في الشرق الأوسط ومنطقة آسيا الوسطى؟ أم هناك مصالح مشتركة على المدى البعيد؟ ويتبعه سؤال آخر: هل بقي للعرب، ولا سيما الدول العربية الكبيرة، دور فاعل في تقرير مصير هذه المنطقة، التي تتلاقى أو تتنافس فيها وعليها، دول كبيرة غير عربية، هي تركيا وإيران والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا و..إسرائيل؟!

يرى البعض في الأوضاع الراهنة في منطقة الشرق الأوسط، ما يذكر بأوضاع الخمسينات من القرن المنصرم، ومشاريع الدفاع المشترك الغربي وحلف بغداد الذي جمع بين دول شمالي المنطقة (إيران، العراق، تركيا) وتصدت لمقاومته مصر والسعودية وسوريا. ولكن الأمر يختلف جدا، اليوم. إذ ليس هناك حرب باردة بين واشنطن وموسكو، ولا خطر شيوعي يهدد المنطقة ولا معركة تحرر وطني لشعوب عربية من الاستعمار، ولا تغييب للشعب الفلسطيني. ولا كان هناك قوات أميركية ودولية في المنطقة تحارب، مع الأنظمة الحاكمة، الإرهاب الجديد.

إن السنة أو السنتين القادمتين قد تحملان إلى المنطقة سلاما أو هدنة ونوعا من الاستقرار، إذا نجحت الاستراتيجية الأميركية الجديدة في تحقيق اتفاق بين الفلسطينيين والعرب وإسرائيل، واستقر الوضع في العراق وفي أفغانستان. ولكن هذه المهمة تبدو حتى الآن أصعب من أن تتغلب عليها رغبة الرئيس الأميركي وإرادته. لا سيما مع وجود اللوبي الإسرائيلي متحفزا للانقضاض عليه. بل قد تشهد المنطقة مزيدا من التفكك في العراق ومزيدا من الدعم الإيراني للدول والقوى المعارضة للولايات المتحدة والمجتمع الدولي والأنظمة الحاكمة، وإلى مزيد من الاضطرابات والأزمات والحروب.

صحيح أن الأمر يتعلق إلى حد كبير بالسياسة التي سيتبعها الرئيس الأميركي الجديد، ولكن هناك لاعبين جديدين دخلا إلى ملعب الشرق الأوسط هما تركيا وإيران. وأن هناك النار المشتعلة في فلسطين، ونيرانا لم تطفأ في العراق ولبنان، وجمرا تحت الرماد في أكثر من بلد عربي. وكل ذلك فوق بحر من النفط والغاز، يشكل مصلحة دولية حيوية.

وإنه لمن المؤسف، بل والمؤلم، أن تكون «الأمة العربية» تتأمل هذا المشهد الرهيب، منقسمة على بعضها، عاجزة عن الاتفاق على مفهوم واحد مشترك للخلاص مما ترسمه مصالح غير عربية إقليمية ودولية، لها من مصير.