تأملات في واقعة اليونسكو!

TT

يجب أن أعترف أن لديّ تعاطفا كبيرا مع وزير الثقافة المصري الفنان فاروق حسني، وهو تعاطف شخصي من ناحية لأنه من الشخصيات الرقيقة دمثة الخلق والتي تخلق لدى كل من يقابلها قدرا كبيرا من الارتياح. ومن ناحية أخرى فإن التعاطف ثقافي مع نوعية الفن والتصوير الذي يأتي به على مستويات عالية من الرقي والحساسية في اللون والتعبير. ومن ناحية ثالثة كان التعاطف عمليا، فلن يختلف أحد على أنه واحد من أبرز وزراء الثقافة المصريين خلال العقود الأخيرة بما أنجزه من عمليات تعزيز الثقافة المدنية التي قاومت بشراسة اتجاهات التطرف التي كادت تعصف بالمدنية المصرية كلها، وبعث الثقافة المصرية والعالمية من خلال حركات الترجمة والتفعيل الفكري والتأليف والنشر، وإجراء أكبر عملية صيانة وتجهيز وإصلاح في الآثار المصرية عامة، وأخيرا إجراء عملية الإحياء للعمارة المصرية خلال عمرها المديد بين العصور المختلفة. وباختصار كان فاروق حسني وزيرا منجزا بحكم ما قام به بالفعل في مصر، وكثيرا ما وضعه المراقبون مع الدكتور ثروت عكاشة باعتبارهما في صفوف كبار المنجزين بين وزراء الثقافة، ولكنني أظنه فاق الأخير في ميزان التاريخ المصري.

ولكن التعاطف مع فاروق حسني لكل هذه الأسباب مجتمعة لا ينبغي لها أن تغمض عيوننا عن تأمل تلك المعركة الانتخابية لمنصب مدير عام اليونسكو، واستخلاص ما كان فيها من دروس لأن المسألة كلها لم تكن معركة على منصب دولي بقدر ما كانت جزءا مما يجري على مستويات العالم والإقليم ومصر ذاتها. ولما كان ترشيح فاروق حسني قد حصل على إجماع الدول العربية، فإنه كان مرشح العرب بامتياز، ومن ثم وجبت أكثر ضرورات التقدير والتقييم لما حدث ليس فقط لأن الترشيح العربي للمناصب الدولية لن يتوقف، وإنما لأن المعضلات التي واجهتنا في هذه المناسبة لن نتوقف عن مواجهتنا في المناسبات القادمة، وربما أيضا لأن نتيجة الانتخاب بما وصلت إليه كانت من الأمور الكاشفة عما جرى، وربما عما يجري أيضا.

وبداية فربما كنت واحدا من القلة في مصر التي رأت بصعوبة، إن لم يكن باستحالة انتخاب فاروق حسني، وقد عبرت عن ذلك في ثلاث مناسبات واحدة منها كانت مع الأستاذ محمد سلماوي ـ رئيس تحرير الأهرام إبدو وأحد معاوني الوزير في الحملة ـ منذ عام تقريبا، وأخرى عندما كتبت مقالا عن «مأزق السيد فاروق حسني» شرحت فيه المعضلة الأساسية التي يواجهها، والثالثة جاءت بعد هذا المقال مباشرة عندما اتصل بي الوزير وبكلمات رقيقة راح يناقشني فيمت طرحت. وفي كل هذه المناسبات كان تعاطفي وتأييدي كبيرا، ولكن ذلك كان أمرا والتقدير السياسي أمرا آخر، وعندما أتيح لي أن أقدم بعض العون الصغير فقد قدمته بلا تردد حتى ولو كنت على يقين نابع من التحليل أن الأمر غير متاح بفعل الشخصية والظروف كما سنرى بعد قليل.

والحقيقة أن مصر ممثلة للعرب كانت مؤهلة تماما لكي تكسب موقعا دوليا جديدا، فمن ناحية كان العرف الدولي قد استقر على أن أفريقيا تستحق منصب المدير العام لليونسكو، ومن ثم فإن النظام الدولي كان مؤهلا لقبول أفريقي أولا ومصري خاصة للمنصب بحكم ما يتجمع لمصر والمصريين من محصلة ثقافات متعددة عربية وإفريقية وإسلامية ومتوسطية بحكم الموقع والتاريخ. ويضاف إلى ذلك أن المدرسة الدبلوماسية المصرية أثبتت مهارة وخبرة كبيرة خاصة في المنظمات الدولية متعددة الأطراف خلال العقود الماضية منذ إنشاء الأمم المتحدة ومنظماتها التابعة. ومن المؤكد أن مسألة «المصرية» و«العروبة» و«الإسلام» لم تكن جزءا من المعادلة، فقد سبق اختيار مصري وعربي ومسلم مديرا للوكالة الدولية للطاقة النووية وهو الدكتور أحمد البرادعي وفاز مع وكالته بجائزة نوبل للسلام؛ كما فاز مصري ومسيحي عربي أصيل هو الدكتور بطرس غالي بالمنصب الدولي الرفيع للسكرتير العام للأمم المتحدة.

وكان السيد فاروق حسني مؤهلا تماما لكي يحصل على المنصب بحكم كل ذلك لولا أمران: أولهما أن لحظة الانتخاب هي لحظة للاختبار بمعنى أن سجل المرشح ومؤهلاته تصبح على المحك ويصبح على المرشح أن يدفع ثمن ذنوب ومعاص سواء كانت من صنعه أو من صنع غيره؛ وثانيها أنها لحظة للاختيار الذي هو عملية تصب فيما هو أوسع من توجهات تاريخية جارية في نفس لحظة الانتخاب. وبالطبع فإن استراتيجية وتكتيك الحملة الانتخابية وبناء التحالفات وتحييد الأعداء تلعب دورا كبيرا في العادة، ولكن في المنظمات الدولية فإن تأثيرها مقارنة بالعاملين السابقين يكون أقل فعالية.

وببساطة فإن لحظة انتخاب المدير العام لليونسكو كانت اللحظة التي وضع فيها للاختبار المأزق الذي كان فاروق حسني موضوعا فيه منذ أن أصبح وزيرا للثقافة حينما واجه المأزق الذي يواجهه كل العاملين في المؤسسات العامة في مصر، وهي أن يكون لديك برنامج طموح للإصلاح والتغيير والتطوير، ثم بعد ذلك تجد موضوع إسرائيل والصراع العربي ـ الإسرائيلي يطل عليك باختيارات صعبة ما لم تكن مستحيلة. وهكذا وجد وزير الثقافة المصري نفسه وجها لوجه بمشروعه الإصلاحي مع موضوع «التطبيع»، وفي دائرة تتميز بأيديولوجيات فائرة وثائرة لأسباب شتى وممتلئة حتى آخرها بمثقفين قرروا الانسحاب من المعركة المباشرة مع إسرائيل والإسرائيليين والاكتفاء بمهمة التعبئة الداخلية ضدها. وكان اختيار الوزير هو برنامجه الإصلاحي وأعلن عن خروج الثقافة من عملية العلاقات الطبيعية مع إسرائيل، وجاءت النتيجة أنه ـ ونحن أيضا ـ كسب الإصلاح، ولكنه خسر معركة أصبح عليه أن يدفع ثمنها في المستقبل حينما جاءت لحظة الانتخابات الحاسمة. فلم يكن مفهوما لدى العالم كيف تكون مصر في حالة سلام مع إسرائيل بينما يكون لوزارة ثقافتها رأي آخر، حتى ولو كان الأمر مفهوما تماما في مصر وهو أن السلام جرى مع مصر، ولكنه بقي حربا مع كل الدول العربية الأخرى التي تربطها بمصر علاقات ووشائج يستحيل فصمها. ومما زاد المسألة تعقيدا أن الجماعة الثقافية المصرية لم تعف فاروق حسني من اختبارها الخاص بمجرد ترشيحه للمنصب، بل إنها شنت عليه حملة من المراقبة بحثا عن تنازلات «تطبيعية» حتى ولو كانت المسألة صيانة ومحافظة على المعابد اليهودية التي هي جزء أصيل من التراث الثقافي المصري. ألم يولد النبي موسى عليه السلام على أرض مصر وتزوج من أهلها بعد أن تربى في قصورها الملكية؟

وكانت الظروف الدولية والإقليمية بدورها تقف أمام فاروق حسني، ورغم أن رسالة باراك أوباما إلى العالم الإسلامي جاءت من القاهرة عابرة فوق تراث مرير للإدارة السابقة، إلا أن الرئيس الأمريكي يريد أيضا النجاح والفوز وخاصة في قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي المزمنة التي هي رغم البعد مؤثرة في قضايا ممتدة من باكستان وحتى المغرب. فالمسألة بالنسبة للولايات المتحدة لم تكن انتخاب مدير عام لليونسكو، وإنما كيف يكون ذلك أداة في حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي والأهم بناء تحالف دولي للتعامل مع قضايا العالم المعقدة. وبالنسبة للأولى فإن مفتاح الحل في يد إسرائيل لأنها هي التي ستقوم بالانسحاب وهي التي سيضغط عليها من أجل وقف المستوطنات، وبالنسبة للثانية فإن المفتاح في يد روسيا؛ ومن ثم فإن إرضاء إسرائيل كان ضروريا ليس فقط لأن فاروق حسني وقف مع المعارضين للتطبيع، وإنما لأنه لم يقم ثقافة السلام، أما إرضاء روسيا فيكون بوقف مشروع الدرع الصاروخية. وللحق فإن واشنطن كانت صريحة مع القاهرة حينما أبدت استعدادها لتأييد مرشح مصري آخر لم يكن ممن تعرضوا للمأزق التاريخي المشار إليه من قبل، وترددت أسماء مثل إسماعيل سراج الدين أو زاهي حواس؛ ولكن الصراحة لم تكن من سمات بعض الدول الأوروبية التي رأت أن الوعد أمر، والاستسلام لقواعد النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في اللحظات الحاسمة أمر آخر. وبالتأكيد فإن كل ذلك ليس كل القصة، وربما لا تزال نهايتها بعيدة!.