شمال أفريقيا العربي

TT

أخذ البعض، في المغرب، يتأفف من رواج عبارة المغرب العربي حينما تطلق على الفضاء الذي يضم الأقطار الأفريقية الواقعة شمال الصحراء. ولعله يماثل تأفف الأقطار العربية من عبارة الخليج الفارسي. ولكي نحكم على هذا يجب أن نستحضر ذاك. ولربما يتعلق الأمر في الحالتين، بمحاولة الاستيلاء على التاريخ من خلال الجغرافيا اللائذة بالصمت.

في أيام النضال الوطني كان هناك تبادل، بلا أي تشنج، ما بين عبارتي شمال أفريقيا والمغرب العربي. إذ كانت التسمية التي تم اختيارها لأول تنظيم ضم نخبة من شباب تونس والجزائر والمغرب، في أوائل الثلاثينات، هي «جمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين بفرنسا». ورأت تلك الجمعية النور في أرض المهجر الفرنسي بهدف التمعن في القواسم المشتركة القائمة فيما بين تلك الأقطار، والتقدم بمقترحات تهم تحقيق النهضة المنشودة في المنطقة كلها.

وأضيف نعت «المسلمين» في اسم الجمعية بقصد حصر العضوية في أبناء الشعوب الأصلية في البلدان المعنية دون غيرهم من الطلاب الواردين من تلك الأقطار. وقد شرح أحد المؤسسين الغاية من ذلك الحصر، هو الزعيم المغربي محمد حسن الوزاني بأنه كان «إبعادا للفرنسيين الذين كانت لهم جمعياتهم الخاصة، كما كانوا يتمتعون بحقوق وامتيازات كنا محرومين منها، ولقد اتهمنا من طرفهم بما كنا منه براء، وهو (التمييز العنصري) و(التعصب الديني) فحوربنا لهذا بكل الوسائل». (ص 450 من كتاب مذكرات حياة وجهاد. م. ح. الوزاني)

وللنظر في مضمون تلك المبادرة. شرح الوزاني أغراض الجمعية فقال إنها كانت مادية، لمساعدة الطالب على الحياة والدراسة، ومعنوية وهي تمتين صلات المودة والتضامن. وأطنب الكاتب فيما يتعلق بالغاية المعنوية فقال «وفي نفس الوقت كانت الجمعية تعمل لنشر الثقافة العربية والتعريف بالتاريخ الوطني». وهذا ما يتجلى في جدول أعمال المؤتمر السنوي الذي كانت الجمعية تعقده كل مرة في قطر من الأقطار الثلاثة.

وعلى سبيل المثال فإن المؤتمر الأول للجمعية الذي انعقد بتونس في 20 غشت (أغسطس/آب) 1930 كان له جدول أعمال مؤلف من أربع نقط أولاها «التعليم العربي بشمال أفريقيا». وحضر المؤتمر وفد جزائري كان برئاسة فرحات عباس. وفي المؤتمر الثاني الذي انعقد بالجزائر في 25 غشت 1932 كانت النقطة الأولى في جدول الأعمال كالآتي: تعليم العربية في شمال أفريقيا. وتقرر أن ينعقد المؤتمر الثالث بفاس، ولكنه منع. وكانت النقطة الأولى في جدول الأعمال هي بالذات: تعليم العربية بالجزائر.

وهكذا فقد كان هناك إلحاح على إعطاء الاعتبار للثقافة العربية ولتعليم اللغة العربية لدى نخبة كانت تتلقى تكوينها العالي بالفرنسية. وهذه الرغبة الواضحة لدى المؤسسين كانت نابعة من التمسك بالهوية الوطنية في مواجهة المخططات التي كان الاستعمار يفرضها في الأقطار الثلاثة بقصد فرض التوجه الاستعماري في التعليم والاقتصاد والحياة العامة.

وقد سعى الرواد الأولون للعمل المغاربي إلى العناية بدراسة التاريخ الوطني. وكانت المؤتمرات السنوية للجمعية تركز على ذلك. وتجلى الاهتمام بموضوع التاريخ الوطني في المؤلفات والأبحاث التي نشرت في الجرائد والمجلات التي سمحت الظروف بإصدارها هنا وهناك من الأقطار الثلاثة. وظهرت كتب عن تاريخ شمال أفريقيا القديم لمحاولة نشر تأويل يصحح ما أخذ الكتاب الاستعماريون يروجونه، وخاصة في مجال ربط التاريخ القديم للأقطار المغاربية بتاريخ أوروبا.

وإذا كان التركيز قد وقع على البعد العربي للأقطار الثلاثة في ذلك الإبان، فإنه لم يكن ليعني إلغاء المكونات الأخرى للشخصية الوطنية في الأقطار الثلاثة. بل إن علال الفاسي مثلا في كتابه «الحركات الاستقلالية في المغرب العربي» الصادر في القاهرة سنة 1948 جعل الفصل الأول منه بعنوان «امتداد». وكان يعني أن روح المقاومة للاستعمار التي استيقظت في البلدان الثلاثة هي استمرار لوجدان الأمازيغ المتشبعين بالحرية. وعاكس الزعيم المغربي المقولات الفرنسية فقال إن شعوب المنطقة أرومتها مشرقية، ولهذا تجاوبت مع الفينيقيين وبعد ذلك تجاوبت مع العرب، في حين أنها قاومت روما كما قاومت فرنسا. وحين تمسحت ابتدعت لنفسها كنيسة مستقلة.

وتطورت الفكرة المغاربية في نفس الأفق، وبوجدان مشترك، ووجدت التنظيمات السياسية التي تشكلت فيما بعد، في غمار معارك التحرير أنها مدعوة إلى تنسيق جهودها. والتقت تلك التنظيمات في وقت واحد عند فكرة واضحة وهي التماس العون في معركة التحرير لدى البلدان العربية التي سبقت إلى نيل الاستقلال.

ووقع ذلك في وقت مبكر منذ الثلاثينات. ولكن التركيز ازداد وضوحا على التماس العون لدى الأقطار العربية في المشرق، بعيد الحرب العالمية الثانية. وحينما أنشئت جامعة الدول العربية كانت الأحزاب الاستقلالية في الشمال الأفريقي سباقة إلى طلب عون هذه المنظمة.

والتقى قادة النضال الوطني المغاربي في القاهرة في مبادرة كان لها ما بعدها وهي عقد مؤتمر للأحزاب الوطنية المغاربية في القاهرة وإنشاء مكتب المغرب العربي برعاية الأمين العام للجامعة العربية عبد الرحمن عزام. وذلك في 15 ـ 17 فبراير 1947. وكانت تلك خطوة بارزة في مضمار كفاح شعوبنا، سرعان ما تعززت بدفعة جديدة حينما شكلت أحزاب المكتب المذكور هيئة باسم «لجنة تحرير المغرب العربي» برئاسة الأمير الخطابي.

ومعروف أن ذلك الزعيم المغربي الرمز، وهو أمازيغي، أعطى للجنة توجها عربيا قوي الملامح، واستمر على ذلك النهج فكان من حملة الأفكار الناصرية، كما يظهر من رسائل له نشرت حديثا.

لقد قاد التفكير الاستراتيجي لقادة الأحزاب الاستقلالية في شمال أفريقيا، إلى أن الاستنجاد بالأقطار العربية المستقلة سيكون مساعدا على الضغط على فرنسا. وبالتالي فإن قادة التحرر الوطني في البلدان المغاربية رأوا أن من حقهم على إخوانهم في المشرق أن يمدوهم بالأزر المادي والسياسي، وعولوا على الجامعة العربية في تدويل الصراع مع فرنسا والخروج به من الإطار الثنائي إلى الإطار الدولي الرحب.

وهنا كان الدعم العربي المتمثل في العون المادي بواسطة السلاح، والعون السياسي على مستوى الأمم المتحدة، حاسما في تطوير معركة النضال من أجل الاستقلال في جميع أقطارنا، مما أثبت أن مراهنة القادة الأولين للكفاح الوطني في أقطارنا على المشرق كانت في محلها.

وكان الانتقال من شعار شمال أفريقيا إلى شعار المغرب العربي اختيارا مبيتا لفرض كفاح شعوب المنطقة على جدول أعمال الشعوب والدول العربية. فكان خطاب قادة التحرر الوطني في الشمال الأفريقي نابعا من الرغبة في ألا يبقى معزولا كما كان يريد الاستعمار.

إن الحركات الاستقلالية في شمال أفريقيا هي التي سعت إلى أن تفرض نفسها في الخريطة العربية، وكانت مراهنتها صحيحة، إذ تقدم النضال الوطني في أقطارنا أشواطا كبيرة حينما اكتسب دعم الشعوب والدول العربية. واصطفافنا ضمن المجموعة العربية كان يصنفنا ضمن طليعة الشعوب المناوئة للاستعمار.

وكان واضحا في كل وقت، أن أقطارنا متنوعة من الناحية العرقية والثقافية. وكما أن المغرب ليس بكامله عربيا، فالعالم العربي بدوره ليس كله عربيا. وتاريخه وثقافته ليسا من صنع العرب وحدهم. ولنذكر لائحة طويلة من طارق بن زياد إلى صلاح الدين الأيوبي إلى بن عبد الكريم الخطابي.