مهر «آنا»

TT

أعتقد أن أكثر المذكرات، أو الاستعادات، صراحة بعد «اعترافات» جان جاك روسو، هي «تقشير البصلة» لأشهر كتَّاب ألمانيا، غونثر غراس، لقد أشرت إلى الكتاب في هذه العجالة بعد صدوره. لكنني لا أكف عن العودة إليه، حيث يرسم كاتب شديد الاقتدار، ومفتون بالتفاصيل، صروف وأنواع وأطوار الضعف البشري، بألوانها الحقيقية وخيوطها الظاهرة والخفية. فالكاتب هنا هو بطل الحقيقة الأكثر فصولا وبؤساً وفجاجة ودراماتيكية من الروايات المتخيلة. وهذا الروائي نراه جندياً نازياً في الحرب، داخل سيارة إسعاف، إلى جانب رفيق مصاب بشظية أدت إلى قطع ساقيه، لكن المصاب يقول لرفيقه متوسلا: «تحسس أعضائي، هل لا تزال سالمة». فيفعل ويطمئنه فيقول هذا منشرحاً غارقاً في دمائه «شكراً يا غونثر. هذا هو الأهم».

ونرى الكاتب إلى جانب سرير أمه المحتضرة في غرفة مستشفى بلا نوافذ. وفي جو الانطفاء هذا يعرف من شقيقته أن أمه سلمت نفسها إلى الجنود السوفيات يغتصبونها بانتظام من أجل أن تحمي ابنتها من هذه الفظاعة. تلك هي صور الحرب في مذكرات غراس الذي لم ير في حياته سوى أنها تشبه البصلة الشديدة الرائحة، قشرة بعد قشرة، ولذلك كرر، إلى درجة الرتابة، القول، دعونا الآن ننتقل إلى القشرة التالية.

عمل غراس في منجم، ثم في البناء. وحاول أن يكون رساما في باريس، وأخفق. ثم حاول كتابة الشعر، ولم ينجح. وتزوج، المرة الأولى، من سويسرية تدعى آنا، وسكن معها عند أهلها. وفي البيت كان هناك كتابان «عوليس» لجيمس جويس، و«ساحة الكسندر في برلين»، لألفرد دوبلن. وسوف يغيران حياته، إذ ينتقل إلى النثر والرواية.

يسمي غراس الكتابين «مهر آنا»، وهذا «المهر» أو الكتاب الشرارة، نجده في حياة جميع الكتاب والشعراء. ليس هناك مؤلف لا يسمي الكتاب أو الكاتب الأول الذي حرك فيه دافع الكتابة. ويمضي الكتاب أعمارهم وهم يستعينون بأعمال سواهم، كمحرك أو كمؤشر. كل كاتب هو مرآة الآخر، وإن اختلف حجم المرايا وعمقها. وكل كاتب مدين، في بداياته، لكتاب أو كاتب ما. أو طبعاً لأكثر. وهذا التأثر لا يتوقف. وطالما قرأت أشياء تمنيت لو أنني أكتب مثلها. وطالما حاولت أن أقرأ أشياء وتمنيت لو أنها لم تكتب.