القصاب ليس قصابا

TT

لم تكن أسرة آل القصاب معروفة بهذا الاسم في العراق. كانت تعرف باسم الجشعمي نسبة لقبائل جشعم، بيد أن جدهم السيد درع أقام وليمة ختان مهيبة ذبح لها عددا كبيرا من الغنم والإبل فسموه بالقصاب ومشى اللقب لأولاده وأحفاده، ولكنها كانت تسمية متناقضة تماما فلم أعرف أسرة أبعد عن العنف والذبح والقصابة كأبناء هذه الأسرة الكريمة.

بعثوا ابنهم عبد العزيز لدراسة الطب في اسطنبول، ولكنه وجد درس التشريح الذي تتضمنه الدراسة شيئا لا طاقة له عليه، بل اعتبره مخالفا لإيمانه الديني. فانتقل لدراسة القانون. هذا ما شعرت به أنا أيضا عندما رغبت أسرتي أن أدرس الطب. هربت منه بسبب التشريح والتعامل مع المرض والموت. وخلال دراستي للقانون هربت من كل دروس الطب العدلي التي تطلبت تشريح الموتى.

بيد أن أولاده أرادوا التعويض عما فاته بأن تقدموا هم لدراسة الطب. وكانت منهم البروفسورة سعاد رحمها الله. وكانوا يهيئون الطلبة لتشريح الموتى بقيامهم أولا بتشريح الحيوانات. اقتضى على سعاد أن تقوم بتشريح أرنب. ذهبت للسوق واشترت واحدا. جاءت به للبيت، ولكنها لم تقو على ذبحه أولا. تحيرت في الأمر، بيد أن أختي فضيلة قالت لها إذا كانت هذه هي المشكلة فأخي خالد السبع يذبحه لك. جاءت به إليّ وطمأنتها على الموضوع: ولا يهمك يا سعاد. تريدينه غدا وأنا غدا صباحا سأذبحه لك وآتيك بجثته.

جاء صباح الغد وذهبت للمطبخ واخترت سكينة حادة مناسبة. أمسكت برقبة الحيوان الصغير فنطر إليّ بعينيه العسليتين البريئتين اللتين ما زالتا تلوحان في ذاكرتي ومخيلتي. انهارت إرادتي في الحال. كيف أذبح مثل هذا الشيء البريء والظريف؟

لم أجد سبيلا لذلك فقررت أخذه للقصاب، قصاب حقيقي وليس بالاسم، وضعت الأرنب في سلة ووقفت بين زبائن الجزار في سوق الأعظمية أنتظر دوري. نظرت حولي في حياء وأخرجت رأس الأرنب من السلة وأشرت إليه برغبتي بذبحه. انتصب الرجل وتراجع خطوتين للوراء وعاينني بازدراء وعجب: «يا أستاذ شلون تريد تقتل هالحيوان الجميل؟ عيب عليك! إذا كنتوا تحتاجون لحم بالبيت فأنا أعطيكم هدية مني». قال ومضى ليقطع لي شقفة كبيرة من فخذ خروف تصدقا عليّ ورحمة بالحيوان. نظر إليّ الواقفون بمثل ذلك من الاحتقار والشفقة فأعدت الأرنب في السلة وهرعت متواريا من نظراتهم وعدت للبيت لأعتذر لتلميذة الطب.

هكذا عرفت العراق. لم نقو على ذبح أرنب. كيف تحول الناس إلى هؤلاء الجزارين الذين أعملوا سكاكينهم في رقاب المسلمين والنصارى؟ كيف ذبحوا ابنة أخي، الصيدلانية الشابة زينة لمجرد أنها باعت أدوية للجيش الأميركي؟ اللهم أعطنا عقل الأرنب وقلب الضفدع وخذ هذه العقول الفاسدة والقلوب الجامدة.