نكاية بالفرنكوفونية

TT

صفعة قوية، تلقتها «الفرنكوفونية» في بيروت الأسبوع الماضي، والموجع أنها أتت من البلد العربي الذي يعتبر حامي الفرنسية في الشرق ورافع لوائها. الأم الحنون لم تعد قادرة على منح أبنائها الدفء الكافي على ما يبدو، أو أن الأبناء أضحوا عصاة ومتمردين. كل الإحصاءات التي تشير إلى أن زحف الإنجليزية لم يقهر الفرنسية في لبنان، لم تكن كافية لإقناع الفرنسيين يوم افتتاح الألعاب الفرنكوفونية في بيروت بأن عزتهم الاستعمارية لا يزال لها شيء من الهالة في بلاد الأرز. صحافي فرنسي جاء لتغطية الحدث صعق حين رأى أن الإعلان عن الألعاب مكتوب بالعربية، والكليبات التي تروج للحدث، تتكلم العربية أيضا. تناقض بدا للرجل عجائبيا. ولا بد أن الذهول لم يكن ليفارق صاحبنا، حين رأى بأم العين أن الإعلان الفرنكوفوني، ولو باللغة الأم لم يقنع اللبنانيين بالتحرك من بيوتهم يوم الأحد الماضي لحضور الافتتاح الذي قيل لهم إنه «مبهر» فنيا، تشارك فيه حبيبة الجماهير ماجدة الرومي. الملعب الذي يتسع لستين ألف متفرج، امتلأ بالكاد ثلثه. ثلاثون ألف بطاقة مجانية وزعت لاجتذاب الناس، وزير الرياضة خرج على اللبنانيين، يدعوهم للحضور بكل فئاتهم، فاتحا أمامهم الأبواب بالمجان، رئيس الوزراء قال لهم إنه «حدث تاريخي»، عليهم أن يغتنموه، لكن دون كبير جدوى. العنوان لم يكن مشجعا على ما يبدو، حتى بين الفرنكوفونيين أنفسهم. إحدى المدارس الفرنسية، وجهت دعوة لطلابها لنقلهم مجانا من إحدى المناطق وتأمين الأماكن لهم، مع ذويهم. دعوة سخية لم تجلب إلى المدينة الرياضية سوى عشرين شخصا، بينهم ستة من المدرسين وعائلاتهم. حضور رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون مع عدد من وزرائه لم يغير الكثير. الحماسة الرسمية اللبنانية، والتحضيرات المستنفرة منذ ما يقارب السنة، وحضور الطاقم السياسي الرئاسي اللبناني بأكمله، لم يكن كافيا، لإقناع أحد بأن ثمة ما هو تاريخي في كل ما يجري، باستثناء الجمالية الفنية للعرض الخلاب على أرض الملعب، حيث لوحظ تكاثر الحضور مع بدئه ثم تبخر بانتهائه، دون اهتمام يذكر بمغنٍّ شهير مثل يوسو ندور قدم أغنياته في الختام.

التقوقع اللبناني على الذات، بدا أشبه بشوفينية فجة. هل هو موقف شعبي للانتقام من «الفرنكوفونية» وردة فعل متأخرة على استعمار كبا، أم انتفاخ نرجسي قاتل؟ وقف الحاضرون للنشيد الوطني اللبناني مرتين بدل المرة الواحدة. مقدم الحفل لم يتعب من تمجيد لبنان وعظمته وهامته الشاهقة، رغم أن البلد في الحضيض. أهمية الوفود عند مقدم الحفل، وهي تمر أمام الجمهور، كانت تستمد قيمتها من قربها للبنان، مساعدتها له، وقوفها إلى جانبه. وفي هذه الاحتفالية التي حارب الراحل رفيق الحريري طويلا للفوز بها كغنيمة لا تفوت، كان لبنان هو البطل، والفرنكوفونية هي «الكومبارس». ليس فقط لأن للبنانيين غراما بالتغني بمواطنيتهم الافتراضية كتعويض عن افتقادها على أرض الواقع، ولكن أيضا لأن أحدا من المتحدثين عن الفرنكوفونية، لم تكن له نبرة حارة أو مقنعة بما في ذلك عبدو ضيوف الأمين العام للمنظمة الفرنكوفونية نفسها. وحده مكسيم شعيا، الرياضي اللبناني المغامر الذي تسلق القمم واجتاز القطب المتجمد ليغرس علم لبنان هناك، أنقذ الموقف. مكسيم شعيا، وبفرنسية لبقة قال إنه بنفس الحماس الذي يدفعه لتسلق قمم العالم السبع واجتياز قطبيه المتجمدين يحمل العلم الفرنكوفوني بكل فخر واعتزاز، ويغرسه وسط الملعب. رمزية موفقة، صفق لها الفرنسيون من القلب بعد طول تعطش. ثمة أشياء فاقعة ذات دلالات كبيرة، يصعب عليك أن لا تلحظها. الفرنسيون الجالسون بقربي كانوا غرباء في عيد يفترض أنه يقام على شرفهم، في ما المزاج العام كان «عربوفونيا» بامتياز. وعندما خطب عبدو ضيوف باللغة الفرنسية، لم يلق آذانا صاغية لدى اللبنانيين. الضوضاء كانت صاخبة وكأن أحدا لا يريد أن يسمع. ثم بدأ الرئيس ميشال سليمان خطابه بالفرنسية فأحبط الموجودين، وما أن انتقل للتحدث بالعربية حتى حظي بتصفيق كبير، وتهليل من الحاضرين. هل ولّت أيام يعتز فيها اللبناني بأنه يفهم الفرنسية أكثر من العربية، ويصغي باحترام لمن يرطنون بها؟ أسئلة كثيرة في زمن تذوي فيه لغة الضاد، ويتباهى شباننا بهجانة ألسنتهم؟ ونتحدث كما اليقين عن موت القومية. هذا لم يمنع الحاضرين من التصفيق بحرارة حماسية للوفود العربية. ولا تفهم لماذا حظي الوفد البلجيكي أو السويسري أو القبرصي، بتصفيق الجماهير وتطبيلهم، مقابل تشجيع خجول لوفد فرنسي ضخم، لم ينل التحية التي يستحقها حجمه، إلا من فرنسيين قلة وقفوا يهللون للأزرق. قد يقال إن ما حدث في المدينة الرياضية ذاك اليوم ليس مقياسا، لكن الأيام التي تلتها وما رافقها من ألعاب رياضية وأنشطة ثقافية لم تلق ترحيبا أفضل. والحق يقال، أن ليس من المقنع أن نحتفي بالفرنكوفونية بينما الفرنسيون يعتبرونها مجرد بضاعة للتصدير كما بعض منتوجاتهم المعلبة، التي لا تسوق في الداخل. وليس من المنطقي أن تخصص صحف لبنانية وعربية صفحاتها لمناسبة بقيت جرائد فرنسا الكبرى خرساء تجاهها. أما وإن الحال كذلك عند أبناء موليير، فلم يعد مستغربا أن يقطع المغني السنغالي يوسو ندور المسافات، ليشارك في العيد الفرنكوفوني بأغنيات إنجليزية، ويخاطب جمهوره كأنجلوسكسوني مخلص. أجواء حفرت كلها عميقا في نفس كل فرنسي جاء إلى عيده في لبنان، فاكتشف أنه «خرج من المولد بلا حمص». ومع ذلك كتب أحد الصحافيين الفرنسيين القلائل الذين رافقوا الحدث معزيا نفسه بالقول: «الفرنكوفونية لم تمت في بلاد الأرز، لكن علينا أن نتأقلم مع الوضع الجديد».