مبالغات الحديث عن موت اليسار

TT

هل تحتضر الاشتراكية؟ هل ماتت الاشتراكية؟ هل هذه هي نهاية الطريق أمام تيار اليسار؟

كانت تلك بعض العناوين التي تصدرت الصفحات الأولى من الصحف الأوروبية هذا الأسبوع. في الوقت ذاته أذاعت بعض محطات الراديو والتلفزيون برامج مخصصة لتناول الأفول المزعوم لليسار. وتعكف بعض المنظمات الفكرية بالفعل على تنظيم ما يشبه مراسم تأبين «المتوفى الغالي».

أما الحدث الذي أثار هذه الموجة من النعي السياسي فتمثل في الانتخابات الألمانية العامة الأحد الماضي، التي حظي فيها «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» بأدنى مستوى من الأصوات على امتداد تاريخه.

عند إلقاء نظرة أوسع على الأنظمة الديمقراطية الكبرى، يتضح أن الاشتراكية ليست على ما يرام، فعلى سبيل المثال، خارج شبه الجزيرة الأيبيرية، يهيمن اللون الأزرق على الاتحاد الأوروبي بصورة تكاد تكون كاملة، وهو اللون المميز للتوجهات المحافظة، بل إن أيبيريا ذاتها قد لا تبقي على تمسكها باللون الأحمر، اللون المميز للاشتراكية، لفترة طويلة، حيث يبدو «حزب العمال الاشتراكي» في إسبانيا على مشارف هزيمة في الانتخابات القادمة. بالنسبة لبريطانيا، حيث لا يزال «حزب العمال» ذو التوجهات الاشتراكية المعتدلة مسيطرا على السلطة، يتوقع معظم الخبراء المخضرمين عودة «حزب المحافظين» إلى السلطة في انتخابات العام القادم.

أما الأمر الذي يجعل هذا الانحسار الواضح لليسار أكثر إثارة للاهتمام فيتمثل في أنه يأتي في فترة تعاني الرأسمالية ما يفترض أنه يشكل أخطر أزمة تجابهها على الإطلاق منذ عشرينات القرن الماضي. وبالكاد منذ عام مضى أثارت الأزمة عناوين صحافية حول الموت الوشيك للرأسمالية، وكانت مثل هذه الأزمات تحديدا هي ما عول عليه أمثال ماركس ولينين باعتبارها «المحرك التاريخي» لحلمهما باندلاع ثورة اشتراكية.

لكن ماذا لو أن العناوين الصحافية الأخيرة التي أعلنت موت الاشتراكية لا تعدو محض خيال تماما كما كان الحال مع العناوين التي نعت الرأسمالية منذ بضعة أشهر ماضية؟

دعونا نبدأ بالنظر في نتائج الانتخابات الألمانية. لقد خسر «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» ما يقرب من 11% من نصيبه من الأصوات، إلا أنه خسر الجزء الأكبر من هذه الأصوات لصالح مجموعة منشقة عن جناحه اليساري متحالفة مع بقايا «الحزب الشيوعي الألماني الشرقي». كما استحوذ «الخضر»، الذين يعدون جزءا من تيار اليسار، على أصوات من «الحزب الديمقراطي الاشتراكي».

من بين الأسباب وراء خسارة «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» استمراره في تأييد الحرب في أفغانستان. موقف آثار سخط القاعدة التقليدية من مؤيديه المناهضين للحرب، خصوصا في الأقاليم الشمالية والشرقية.

الملاحظ أن حزب «الاتحاد المسيحي الديمقراطي»، الذي تتزعمه المستشارة أنجيلا ميركل وينتمي إلى يمين الوسط، خسر هو الآخر بضع نقاط مئوية، بجانب حلفائه ذوي التوجهات اليمينية القوية داخل «الاتحاد البافاري المسيحي الاشتراكي».

أما الفائز الأكبر في الانتخابات فكان مجموعة ليبرالية تنتمي إلى الوسط تدعى «الحزب الديمقراطي الحر»، والتي اجتذبت غالبية الأصوات الإضافية من الائتلاف بين «الاتحاد المسيحي الديمقراطي» و«الاتحاد البافاري المسيحي الاشتراكي» بقيادة ميركل.

وقد يكون من بين أسباب النجاح غير المتوقع الذي حققه «الحزب الديمقراطي الحر» أن ميركل، التي تقيدت يدها بدخولها في ائتلاف مع «الاشتراكيين»، كانت عاجزة عن تنفيذ أي إصلاحات اقتصادية كانت قد وعدت بها في الانتخابات العامة الماضية.

وفي الوقت ذاته فإن «الاشتراكيين» تقيدوا بهذا الائتلاف، ما اضطرهم إلى الحنث بوعودهم بتحقيق إصلاح اجتماعي وتوسيع نطاق دولة الرفاه.

إن ما تكشفه الانتخابات الألمانية ليس موت الاشتراكية، وإنما التحول من يسار الوسط إلى اليسار، بجانب تحول آخر من اليمين إلى الوسط. وعليه، يتضح أن نتائج هذه الانتخابات قد تكون مفرطة في التعقيد على نحو يجعل من المتعذر النظر إليها كمؤشر على أفول نجم اليسار.

يتمثل حدث آخر يثير الشكوك حيال التقارير الواردة عن موت الاشتراكية في النصر المدوي لليسار الياباني في الانتخابات العامة الشهر الماضي، والتي أنهت 60 عاما من الحكم الاستبدادي لمن يطلقون على أنفسهم عن طريق الخطأ مسمى «ديمقراطيين ليبراليين».

قد يكون الأهم من ذلك أن فوز الرئيس باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية الأميركية العام الماضي أدى إلى تشكيل أكثر إدارة ذات توجهات يسارية في التاريخ الأميركي.

في غضون ثمانية شهور فحسب، زاد أوباما حجم القطاع العام داخل الاقتصاد الأميركي بنسبة هائلة بلغت 20%، ويمارس ضغوطا شديدة للمضي قدما على هذا الطريق عبر التأميم الجزئي لصناعة الرعاية الصحية.

على صعيد السياسة الخارجية، كان من شأن الاعتذارات المتنوعة التي قدمها أوباما لدول من المفترض أن الولايات المتحدة أخطأت بحقها في الماضي، وخطابه «المناهض للإمبريالية» جعل صورته أقرب لهوغو شافيز في فنزويلا عن ميركل في ألمانيا.

في بعض الأحيان تبدو خطابات أوباما أكثر شبها بالخطابات اليسارية الأوروبية القديمة التي ذاعت في ثلاثينات القرن الماضي، وصاحبها توسيع لنطاق سلطة الدولة ودعوة للتوجهات المهادنة، عن تلك الصادرة عن سياسي أميركي معاصر يعمل في إطار نظام ديمقراطي بالقرن الحادي والعشرين.

منذ بضعة شهور ماضية فقط احتفل اليسار الأميركي بنصر تاريخي له مع تصاعد ادعاءات بأن الجمهوريين طردوا من دائرة السلطة لجيل واحد على الأقل، ومع ذلك هناك مؤشرات توحي بأن علاقة الحب التي ربطت بين أميركا وأوباما قد تكون قد شارفت على نهايتها، وأن انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس المقررة العام القادم قد تشكل صعود نجم الجمهوريين مجددا.

تتمثل إحدى القواعد الرئيسية للديمقراطية، وأحد السباب الجوهرية وراء صمودها حال تردي الكفاءات بها، أن الحظ بمقدوره التحرك في كلا الاتجاهين، سواء يمين أو يسار، تصاب الأحزاب السياسية التي تحكم لفترة طويلة بإنهاك فعلي وجمود فكري وعزلة ثقافية عن الجماهير. وعند حدوث ذلك تفقد هذه الأحزاب جزءا من قاعدتها الانتخابية التي تتجه نحو المعارضة.

وتجني الأطراف كافة الثمار من وراء تبادل الوجود في جانب المعارضة، حيث يمنحها ذلك فرصة تجديد قيادتها والسماح بضخ دماء جديدة في الحزب وأفكار جديدة به.

وعند إلقاء نظرة على أكثر المجتمعات المعاصرة نجاحا يتضح أنها تمكنت من خلق نظام من الحكومة يكبح الإفراط ويعاقب الغرور ويعزز التسوية. وتقدم هذه المجتمعات السياسات التي تجمع بين الحاجة للتغيير وضرورة الحفاظ ما يستحق الإبقاء عليه. وقد يستحث الحديث عن تغيير راديكالي، مثل وعد أوباما بـ«تجديد أميركا»، غالبية الناس لبعض الوقت، لكن الأمر ينتهي دوما بشعورهم بخيبة الأمل. ويعود السبب إلى أن غالبية الأفراد في المجتمعات الحديثة ما بعد الحقبة الصناعية لا تشعر بأي حاجة حقيقية لـ«التجديد الكامل».

في هذا الإطار، لا شك أن النسخة الثورية من اليسار ماتت داخل الديمقراطيات المتقدمة. لكن هذه الوفاة وقعت منذ أمد بعيد، بالتأكيد قبل الانتخابات العامة الألمانية الأخيرة بكثير.