المهمات القادمة للحكومات الأوروبية في الشرق الأوسط

TT

أرادت المجلة الألمانية الشهيرة «دير شبيغل» أن تحدّد المهمات العاجلة للحكومة المقبلة، فذكرت ما يلي: اتخاذ قرار بسحب القوات من أفغانستان أو إبقائها هناك ـ اتخاذ قرار بشأن الموقف من النووي الإيراني؛ وبخاصةٍ إذا تجاوز الأمر تشديد العقوبات للمرة الرابعة إلى شنّ الحرب ـ اتخاذ قرار بشأن المطلب الأميركي إرسال قوات فصلٍ وسلامٍ إلى فلسطين إذا بدأ التفاوضُ على قيام الدولة ونجح ـ واتخاذ قرار بشأن تأييد أو مُعارضة دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي! وبعد أن ذكرت المجلة أنّ حكومة «التحالف الكبير» بين الديمقراطيين المسيحيين، والديمقراطيين الاشتراكيين، عجزت طَوالَ أربع سنواتٍ عن الحسْم في هذه المسائل، عادت للقول إنّ هذه القرارات ما عاد تأخيرها ممكنا. وختمت بالقول إنّ هذه التحديات في الحقيقة هي تحدياتٌ أوروبية، وليست خاصةً بألمانيا!

إذا تأمَّلْنا التحديات المذكورة آنفا نجد أنها جميعا شرق أوسطية. والطريف أنّ المجلة المحترمة تتجاهلُ موضوعاتٍ مهمةً ومهمةً جدا في السياق الأُوروبي والعالمي، مثل إجراءات مكافحة الأزمة المالية العالمية وآثارها، ومثل الموضوع الرئيسي الذي ساد الانتخابات الألمانية بشأن خفض الضرائب في العام 2010 أو 2011، ومثل السياسات تُجاه سورية، وهل تدعم الحكومة الألمانية التوجُّه الفرنسي لعقد اتفاقية تعاوُن تأخرت خمس سنوات؛ بين سورية والسوق الأوروبية؟!

ولنعد إلى الموضوعات الأربعة التي شكّلت وتشكّل تحدياتٍ للأوروبيين، والتي ترددوا طويلا بشأنها، وقاربوها بشكلٍ معينٍ حتى الآن بضغطٍ من الولايات المتحدة الأميركية أيام بوش الابن وأوباما.

في موضوع الجنود الألمان بأفغانستان، يعتبر الحزبان الكبيران أنهما لم يخالفا الدستور الألماني بعدم إرسال عساكر إلى مناطق النزاع، لأنّ القوات الألمانية (خمسة آلاف) تتمركز في جنوب البلاد، وتقوم بمهمتين: تدريب رجالات الجيش والأمن، والإقبال على الإعمار ومساعدة الناس في ذلك. لكنْ رغم ذلك فإنّ طالبان تشُنُّ هجماتٍ على الألمان وتقتل منهم، وهم إن استطاعوا تجنب المشاركة في الحرب؛ فإنهم يردُّون بالدفاع عن أنفسهم فيُقتل منهم آخرون كما يسقط من طالبان، ومن المدنيين! وفي حين كان الخضر واليساريون وشريك المستشارة ميركل في الحكومة الحزب الاشتراكي، يميلون لسحب القوات أو عدم إرسالها؛ فإنّ ميركل مالت لإبقائها هناك حفظا لعلاقات التحالُف مع الولايات المتحدة؛ وبخاصةٍ بعد أن تسبّب الخلاف بين بوش والمستشار السابق شرودر في خَلْق الكثير من المشكلات. وفي النهاية وافق الاشتراكي شتماينماير أيضا، وبقيت القواتُ هناك، وسط احتجاج الجمهور الألماني واستنكاره. وما كان هذا الموضوع مثار خلافٍ كبير في الانتخابات الأخيرة، لأنّ الحزبين الكبيرين دافعا عنه، ولأنّ الموضوعات الداخلية ظلّت هي الغالبة. لكنْ لا شكَّ أنّ الخضر واليساريين كسبوا من وراء إثارته أصواتَ كثيرين من الشباب. ومن الصعوبة بمكانٍ الحسمُ الآن في الموضوع وفي إنجلترا وفرنسا وإيطاليا أيضا؛ لأنّ قوات الأطلسي تُعاني من فشلٍ ذريع، وهجمات طالبان تصبح أكثر فعاليةً وخسائر. إذ بماذا تستطيع هذه القوى الأطلسية الاحتجاج في التخلّي عن الرئيس أوباما في عامِه الأول، وعن استراتيجيته لمكافحة الإرهاب، بعد أن تخلّى عن العراق موضوع بوش المحبَّب، ومثار اعتراض سائر الرفقاء الأطلسيين؟!

واتخاذ موقفٍ من النووي الإيراني ليس أقلّ صعوبة. فأقصى ما تستطيعُ ألمانيا الاتحادية الموافقة عليه هو تشديد العقوبات. لكنّ الكشف الغربي والإيراني عن المؤسسة النووية الجديدة جعل الموضوع أكثر صعوبةً، إذ إن أصوات المتطرفين (وعلى رأسهم إسرائيل) عادت ترتفع مطالبةً بالضربة. وألمانيا مثل روسيا والصين (وبخلاف الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا) لا تستطيع الموافقة على الضربة لأسبابٍ مبدئية، ولما تخشاه من اضطراب على المستوى العالمي، وفي منطقة الشرق الأوسط على الخصوص. والمهلة التي يمكن عندها الحسم ليست طويلةً أيضا. فالمفاوضات بين إيران وممثّلي الـ5+1 المفروضُ أنها بدأت يومَ أمس. ولن يستغرق الأمر أكثر من أُسبوع حتى تظهر النتائجُ الأولى التي يخشى كثيرون ـ وبالذات بعد الكشف عن المؤسسة النووية الجديدة ـ أن لا تكونَ إيجابيةً على الإطلاق وقد يدور بعدها جدالٌ بين أقطاب مجلس الأمن عن درجات العقوبات وموادّها، وهل يدخل فيها منع إيران من استيراد المشتقّات النفطية أم لا. ويخشى أنصار إيران أن ترتبط العقوبات هذه المرة بمهلةٍ لإعادة النظر، قد لا تتجاوزُ الثلاثة أشهُر. وأيا تكن الاحتمالاتُ والتطورات؛ فإنّ الأمر سوف يكون محرجا للنوويين مثل روسيا والصين وإنجلترا وفرنسا، أكثر من ألمانيا. وتقديري أنّ ميركل سوف تمشي في العقوبات؛ لكنها ستُعارض الضربة إن جرى التفكير فيها بجدية.

وتبدو قواتُ السلام الألمانية، مُرسلةً إلى فلسطين على مشارف إقامة الدولة، مجرَّد مزحة، بالنظر للوضع الراهن. فبعد الاجتماع الثُلاثي بين أوباما ونتنياهو وأبو مازن، بدا أنّ بداية المفاوضات ابتعدت على الرغم من مُضي نصف المدة لإقامة الدولة الفلسطينية بحسب خطة أوباما. لكنّ الأوساط الأوروبية لا تزال تتحدث بجديةٍ عن الآليات لإقامة الدولة الفلسطينية رغم معارضة نتنياهو حتّى للمفاوضات. وقد سمعتُ أخيرا على لسان سولانا مسؤول السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي ـ والذي يتقاعدُ آخِرَ هذا العام ـ أنّ الأوروبيين متأكُّدون من أنّ خارطة الطريق المتضمنة لموضوعات الحلّ النهائي (القدس والمستوطنات والحدود واللاجئين) سوف تكون على الطاولة للتنفيذ باعتبار أنّ هناك اتفاقا على الخطوط الكبرى رغم مكابرة نتنياهو وسائر اليمين الإسرائيلي. بيد أن مكابرة اليمين هذه تقتضي المرور بمرحلة مؤقتة بعد العام 2012 قد تمتدُّ عامين، لا بد أن يسودَ فيها الهدوءُ الكامل، وصُنْع أعراف للتعاونُ واختبار إمكان السير في المبادرة العربية للسلام من الطرف المقابل. وهذه الأمور كلّها تحتاج إلى آليات مالية وإدارية وأمنية /عسكرية؛ ويقع على عاتق أوروبا أمران: الدعم المالي، وتقديم قوات للفصل وفرض الأمن على الحدود، وربما داخل المنطقة الفلسطينية. وحتى وقتٍ قريبٍ كان الألمان واليابانيون لا يرسلون قواتٍ خارج الحدود ولو لحفظ السلام. ثم احتاجت الولايات المتحدة إليهم في مرحلتها الهجومية أو مرحلة الهيمنة الأَوحدية، فاضطروا للتلبية على مضض. ومع ذلك فإنّ فلسطين تظلُّ بمثابة «التابو» بالنسبة للألمان، للحساسية الشديدة في الموضوع الإسرائيلي بعد حدوث المحرقة النازية ضد اليهود في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. إنما قياسا على ما حدث في السنوات العشر الماضية؛ فإنّ موضوع قوات السلام من ألمانيا للمساعدة في إقامة الدولة الفلسطينية، وحماية أمن الدولة العبرية؛ سوف يكونُ مُغْريا للألمان، ولا يمكن معارضتُه؛ وبخاصةٍ أنه يخدم الطرفين. ومع ذلك، ورغم توقعات سولانا وغيره؛ فالذي أراهُ أن نتنياهو واليمين لن يمضيا في المفاوضات مهما كان موضوعها إلى أن يطمئنوا إلى زوال التهديد النووي الإيراني، أو أنهم يتخذون ذلك حجةً الآن وإلى أجلٍ غير مسمى!

ولننظر في مسألة دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. والمسألة قديمةٌ تعودُ للستينات من القرن الماضي، وتكاد تُضاهي في صعوبتها وتعقيداتها القضية الفلسطينية(!) مع أنّ تركيا ما شنّت حروبا من أجل ذلك، ولا تزال تعملُ على «تأهيل» نفسها لعملية الدخول المُضْنية هذه. وقد جرت في السنوات الأخيرة تطوراتٌ لغير صالحها. إذ تغير موقفُ فرنسا بعد ذهاب شيراك الداعم ومجيء ساركوزي المُمانع. وقد بلغ من معارضة ساركوزي للأمر أنه عمد إلى إنشاء «الاتحاد المتوسطي» لإدخال تركيا فيه والاستغناء عن دخول الاتحاد الأوروبي. وفي حين كان المستشار الألماني السابق شرودر داعما لتركيا؛ فإنّ ميركل لا تميلُ لذلك. وكذلك الأمر لدى الإيطاليين والإسبان أحيانا. أما الدول الأوروبية الصغيرة فكلُّها معارضة بسبب ضخامة حجم تركيا. وقد صار ظاهرا في السنوات الأخيرة الخَلْط بين الدخول التركي، والغَلَبة الإسلامية في أوروبا. فعدد المسلمين في أوروبا اليوم يزيد على العشرين مليونا. وإذا أُضيف إليهم ثمانون مليون تركي؛ فإنّ الكتلة الإسَلامية تُصبحُ أكبر الكُتَل. وهذا تحدٍ كبيرٌ يقول الأوروبيون عَلَنا إنهم لا يستطيعون تحمُّلَهُ. ويبرزُ من بينهم في رفض ذلك كُلٌّ من ساركوزي وبرلسكوني. لكنّ اليساريين والليبراليين لا يقلُّون عنهما حماسا في التشكُّك إزاء حضور الأتراك ونواياهُم. وتستفيد تركيا ولا شكَّ من دعم الولايات المتحدة، ومن دعم بريطانيا. كما تستفيد من السياسات الليبرالية التي تتبعُها بتحديث القوانين، وبمقاربة المشكلة الأرمنية والمشكلة الكردية بطرائق أكثر هدوءًا وموضوعية. والأهمُّ من ذلك أنها تَعرِضُ منظورا للإسلام يقفُ في مواجهة إسلام «القاعدة»، والتشدد الديني والسياسي الإيراني. وهي في المسرح الشرق أوسطي تعملُ مع إسرائيل وخصومها العرب على حدٍ سواء، لبعث الروح في مفاوضات السلام، وإدامة الاستقرار.

لقد كان هذا الحديث حديثا في مسائل الشرق الأوسط ومشكلاته منظورا إليها من الضفة الأوروبية على أثر الانتخابات الألمانية، وما نزل بالتكتيكات الأميركية للتهدئة والتفاوض، من إحباطات. فيبقى أنّ الشهور الثلاثة القادمة ستكونُ حاسمةً في العلائق بين الغرب وإيران، وفي العلائق بين الفلسطينيين والإسرائيليين. أما الأوروبيون فيظلُّون حائرين بين الاستجابة للاستراتيجيات الأميركية، أو انتهاج طريق مستقلّ.