المعركة السعودية

TT

لو قدر للمتابع أن يدون المواجهات المتعددة التي خاضها الملك المؤسس عبد العزيز مع خصوم الجديد لسجل مئات الصفحات، معركة «البرقية» وحدها تحتل صفحات غزارا.

ثم معركة تحويل الإمارة إلى دولة، والإمام إلى ملك، والهويات الفرعية إلى هوية وطنية جامعة. وبعد معركة «السبلة» الشهيرة، أفلح عبد العزيز في تحييد المتزمتين، والإقلاع بالدولة إلى العصر.

نحن، الأجيال اللاحقة، نحسب أن ما فعله عبد العزيز كان أمرا هينا ومن تحصيل الحاصل، لكن لم تكن الصورة أبدا بهذه السهولة، كيف واجه عبد العزيز المتزمتين، من حضر وبدو، في بدايات التحول إلى حالة الدولة؟ لقد وصل الأمر إلى أن يعقد الملك المؤسس جمعية عمومية في الرياض، دعا إليها أهل الرأي من كل الشرائح، وعرض عليهم واقع التمرد الديني الذي واجهه به «الإخوان» ووصلت حدود النقاش عند الملك أن عرض على الحضور التنازل عن الملك، فكان جواب الحضور: إنهم معه.

بعده جاء الملك سعود الذي دشن معركة تعليم البنات، وهي معركة كبرى في مسيرة المجتمع والدولة، وكان الملك فيصل على الميعاد، وواجه كل المتزمتين، وفيهم شيوخ دين ووعاظ وغوغاء، مارسوا الدعاية المضادة، ومن يقرأ كتاب الباحث عبد الله الوشمي «فتنة القول بتعليم البنات»، يجد سجلا كاملا لهذه المعركة الكبرى وأسماء المشايخ والوعاظ، بل والكتاب الذين حاربوا تعليم البنات النظامي، لكن تم القرار، وانتهي الجدال، ودخلت الفتاة السعودية في نور العلم أفواجا. وقل مثل ذلك عن معركة تحرير الرق، وافتتاح محطة التلفزيون.. ومضت الأمور، ولكن لم تفرغ كنانة التعصب من أسهمها عند كل قرار تنموي وتحديث إداري أو تعليمي، وكلنا تابع «معركة» دمج رئاسة تعليم البنات قبل سنوات قليلة.

والآن ومنذ أن بدأت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، فكرة، ثم قامت صرحا كبيرا قبل أيام بحضور دولي، وبيانات التحريض والتبشير بالهلاك وخراب المجتمع، تهطل مثل مطر أسود، وعاظ ومشايخ من اكبر الهيئات إلى أصغرها، والحجة أنها جامعة تغريبية تمارس «الاختلاط» وتستعين بالخبراء الكفرة!

ومن تابع الصحافة السعودية، في الأيام الأخيرة، يلحظ النقد المتدفق الموجه لشيخ دين بارز، لم يلفت انتباهه في مشروع الجامعة الكبرى، إلا حكاية اختلاط الإناث والذكور! في حالة مزمنة من هوس الفضيلة.

اضمحلت أصوات سلف المتزمتين في النسيان، وستضمحل أصوات الخلف، وكما حرم المشايخ الأول الراديو والتلفزيون، ثم أصبحوا هم نجومهما، وكما أدخل معارضو تعليم البنات بناتهم لاحقا في المدارس، فسنرى هؤلاء المعترضين غدا يتزاحمون لتسجيل أبنائهم في جامعة الملك عبد الله. القصة مكررة، لكن الخطأ بل الخطيئة هي تعطيل التنمية الوطنية من أجل خاطر التعصب.

لن تفنى هذه الأصوات، ولن تنتهي، نعول فقط على أن ترى هي بنفسها لاحقا، كم كانت مخطئة.