تركيا ـ سوريا مؤشرات أم تأشيرات؟

TT

تركيا لم تعد تلك الكماشة أو الفك الجنوبي لحلف الناتو الذي أوليت إليه مهمة مراقبة سوريا ومحاصرتها أمنيا وعسكريا ضمن لعبة الصراع بين نظام القطبين، وسوريا لم تعد ذلك الرقم الصعب بالنسبة لمراكز صناعة القرار السياسي والعسكري في أنقرة الواجب التعامل معه بدقة وحذر وقساوة عند اللزوم، بسبب سياساته ومواقفه التي تركت تركيا في حالة من الاستنفار والتأهب الدائم، بل على العكس من ذلك، فقرار إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين الذي دخل حيز التنفيذ قبل أيام شكل نقلة نوعية مهمة في مسار العلاقات التركية السورية. تركيا تسهل للسوريين الاقتراب أكثر فأكثر ودون أية عوائق من التخوم الأوروبية، حلم لم يكن ليعيشه البعض قبل 10 سنوات مثلا.

حجم التباعد في الطروحات والأفكار بين أنقرة وتل أبيب والتصعيد المتبادل بين البلدين قي التعامل مع مسائل المنطقة وقضاياها ظهر واضحا من خلال إعلان حكومة نتنياهو مؤخرا رفضها لأي دور تركي بعد الآن في الوساطة مع سوريا، قابله على الفور إعلان دمشق أن حكومة العدالة والتنمية هي الشريك الاستراتيجي الجديد الذي لا يمكن التخلي عنه في اتصال مباشر أوغير مباشر مع تل أبيب. والسبب طبعا هو الجهود التركية المتواصلة التي بذلتها أنقرة لإخراج سوريا من عزلتها الدولية ونجاحها في فتح أكثر من قناة اتصال سورية غربية سهلت للجانبين إعطاء لغة الحوار فرصة جديدة يبدو أنها بدأت تعطي بعض النتائج الإيجابية حيال أكثر من ملف.

والمؤكد هنا أن القيادة السورية لم تشأ أن تظهر بمظهر المديون الدائم لأنقرة، فسارعت لطرح خدماتها هي في مسألة قديمة تزعج الأتراك وتحاصرهم في أكثر من مكان، وتصر دمشق على أنها قادرة على لعب دور الوسيط فيها بسبب فرصها وعلاقاتها مع أطراف النزاع. وكانت المناسبة لرد الجميل التركي هي المساهمة السورية في حل المسألة الأرمنية التي تطارد الأتراك، حيث يبدو هنا أن الرئيس السوري استخدم كل رصيده الأرمني لإقناع يريفان بقبول اقتراحاته، مستفيدا من لعب ورقة الجالية الأرمنية المنتشرة في المدن السورية، والتي تحتل دورا رياديا في نهضة وإعمار البلاد.

وكان لدمشق ما أرادت بعد سلسلة تحركات سياسية ودبلوماسية متلاحقة في العامين الأخيرين، بدأت في خريف 2007 من خلال زيارة خاطفة قام بها الرئيس السوري إلى أنقرة وحمل خلالها إلى الأتراك العديد من الرسائل والاقتراحات وتصورات المساهمة السورية الممكن تقديمها على طريق حلحلة العقدة التركية ـ الأرمنية والأرمنية ـ الأذرية دون إهمال كسب دعم وتأييد روسيا التي زارها الرئيس الأسد أخيرا، والتي تجد هي الأخرى مصلحة استراتيجية كبيرة في إنهاء النزاع بين يريفان وباكو، كونه سيسهل لها المضي في مشروع العودة بنفوذها إلى المناطق التي غادرتها قبل 20 عاما.

سوريا التي تعرف تماما أن حجم التداخل والتشابك والتفاصيل المعقدة في هذا الموضوع لن تسهل لها الخروج بنتائج فورية مرضية رغم تجيير فرص علاقاتها الجيدة مع العواصم الأربع، تعرف أن إيصال هذه الأزمة إلى طريق الحل يعزز مقولتها الإقليمية حول أن سوريا وأرمينيا ممران استراتيجيان للنفط والغاز بين البحار الأربعة في المنطقة الممتدة من آسيا الوسطى إلى منطقة الخليج، وضرورة البناء على هذا الأساس لأخذ حصتها في لعبة بناء المعادلات الإقليمية الجديدة.

نقطة أخيرة لا يمكن تجاهلها هنا، وهي أن كل هذا لا يمنعنا من القول إن التقارب التركي السوري المتواصل هذا، والتحرك السوري باتجاه يريفان وباكو وموسكو، لن يزعج إسرائيل وحدها، بل سيكون لإيران تحديدا كلمتها التي ستقولها، خصوصا أن ما يجري يتعارض في أكثر من مكان مع حسابات طهران التي لعبت الورقة السورية لسنوات طويلة في أكثر من مكان. انفجار ما قد يحدث بين لحظة وأخرى لإيقاف أنقرة ودمشق عند حدهما بعدما تجاوزا الخطوط الحمراء التي رسمها هو تحت عنوان تعرض التحالفات والحسابات لتراجع أمام تقدم الخطط والحسابات الغربية هناك.

مقولة الدور السويسري في التقارب التركي الأرمني هي مجرد غطاء لا أكثر، فاختيار جنيف لتكون مركز اللقاءات سببه تخفيف الضغوطات التي تتعرض لها يريفان من قبل الدياسبورا الأرمنية في العالم أولا، وعدم تحميل سوريا مسؤولية أي فشل في مهمتها هذه قد تنعكس على سياساتها ومصالحها الإقليمية ثانيا، ولتجنب النقمة الإيرانية ثالثا.

بقي أن نقول إن الكثير من القوى الغربية، خصوصا المتابعين عن قرب منها للملف الأرمني، على علم واسع بتفاصيل التحرك السوري هذا، وهي أعطت الضوء الأخضر بشأنه منذ أكثر من عام عبر تجميد الكثير من الحملات والتصعيد مع دمشق، وإرجاء طرح ملفات السياسة السورية في مسائل لبنان والعراق وإيران لصالح إعطاء الأولوية لوساطتها هذه.

ترى هل إسرائيل التي تعرف أن التقارب التركي السوري على هذا النحو سيكون على حسابها في أكثر من مكان، سارعت للانتقام من أميركا عبر إفشال تحركات ممثلها إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل ورده خائبا؟!

* كاتب وأكاديمي تركي