عندما كادت أن تبكي على كتفي

TT

كل فترة يظهرون علينا بمصيبة تخلخل المفاصل، إلى درجة أنني فكرت جديا أن أعتزل الناس وآوي إلى جبل يعصمني من الأوبئة، وآخر ما أتحفونا به هو أنفلونزا الخنازير، وقبلها أنفلونزا الطيور، وقبلها جنون البقر، وكأنه لم يكن ناقصا علينا إلا أن تجن الحمير كذلك، وهذا هو ما حصل فعلا في منطقة الضالع جنوبي اليمن.

ونقلت الصحف المحلية عن أهالي المنطقة أن الحمير لم تعد متمسكة «بوقارها» المعهود، فنهيقها بدأ يزداد، وحرونها وعصيانها للأوامر أصبحا ظاهرة متفشية بينها.

ووصل الحال بأحد الحمير إلى أن عض ثلاثة رجال، وعض بقرة في أجزاء متفرقة من جسمها حتى نفقت، بعدها أصيب بهياج عظيم، ولم تحل بعينه غير فتاة أخذ يطاردها، غير أن الأهالي استطاعوا أن يهربوها منه قبل أن يصل إليها، وعندما لم يظفر بها ألقى بنفسه من أعلى مرتفع جبلي وذهب «شهيد الغرام».

* * *

قال لي كأي حكيم: المتشائم هو الشخص الذي يترك له مجال الاختيار بين شرّين، فيختار الاثنين.

رددت عليه وأنا أتصنع الحكمة: أما المتفائل فهو الذي يترك له مجال الاختيار بين خيرين فيرفضهما على أمل الحصول على أفضل منهما، وفي النهاية لا يحصل إلا على السراب والهواء وقليل من أشعة الشمس.

ولا شك أنني أحمل صفة الاثنين معا، متشائم مثل الأول حتى العظم، وفي نفس الوقت متفائل مثل الثاني حتى النخاع، والغريب أنني مع ذلك سعيد جدا جدا «دون أن أدري»، ودون أن أستحق.

* * *

يشير مسح استطلاعي موثق أجري أخيرا إلى أن المرأة تمضي ما «متوسطه» 16 شهرا من حياتها «بالبكاء» ـ أي إنها تبكي سنة كاملة وفوقها أربعة أشهر.

طبعا هذا البكاء متفرق ويبدأ منذ أن كان عمرها أياما إلى أن ينتهي بعد أن تصبح على حافة القبر، ولا شك أنه منظر مسلّ لو قدر لنا أن نشاهد ونتفرج على امرأة مستمرة بالبكاء ومن دون توقف طيلة 16 شهرا.

وما أن قرأت هذا المسح الاستطلاعي، حتى تذكرت امرأة لا أعرفها ولا تعرفني، وشاء حظي العاثر أن يكون مقعدها بجانب مقعدي في صالة السينما، وكان كتفي يكاد أن يحتك بكتفها.

الفيلم فيه شيء من «الدراما»، ولكن ليس إلى هذه الدرجة المأساوية التي جعلت تلك الجارة العاطفية تجهش بالبكاء، ثم ازداد بكاؤها وتحول إلى نشيج. الواقع أنني انزعجت ولم أعد أتابع الفيلم، وصعبت «الوليّة» عليّ، وفكرت أن أربت على كتفها لتهدئتها، غير أنني في آخر لحظة خفت أن تعتقد أنني أتحرش بها في هذه الصالة المظلمة، وبعدين فين أروح من هذه الفضيحة المجلجلة لو أنها حصلت؟!

واستقر رأيي مؤخرا أن أترك لها الفيلم والصالة ومن فيها، وخرجت للهواء الطلق، وأول ما فعلته أنني أخذت أوزع ابتساماتي على العابرين للأرصفة.