حرب الخمسين عاما زائدة 50

TT

لم أتطلع قليلا ولا كثيرا في مشاهد القتال في صعدة. فهذا النوع من الصور عادة هو مشاهد معدة خصيصا لخدمة النشرات الإخبارية، إلا تلك التي يقتل فيها المصورون، أحيانا عن عمد، بنفس الأيدي التي تقتل الآخرين. المشاهد التي تعنيني هي صور المشردين والأطفال والنساء والخيام التي يقتلعها المطر والريح. الأبرياء الذين ليسوا على يمين القتل ولا على يساره، وإنما هم في وسطه ضحايا، لا عدالة تنتظرهم ولا مستقبل ولا شيء فيما عدا القليل من البطانيات.

لقد بلَّد التلفزيون والسينما مشاعرنا ومحاجرنا، وصرنا نرى في الدماء والعذاب والقهر والظلم والجريمة الفردية والجريمة الجماعية مجرد لعبة سينمائية. ولم نعد نتذكر أن الموتى بشر، والجرحى بشر، والبشر مخلوقات بشرية.

لقد أفرغنا المجرمون والقتلة من مشاعرنا وقيمنا وأخلاقنا وأحاسيسنا. كان بطلنا عنترة فأصبح يعرض أمامنا على التلفزيون كيف يحشو نفسه بأسلحة الدمار الفاجر. وكانت الشيمة هي العفو عن الأبرياء فأصبحت قتلهم في الشوارع والأفران والمدارس. وكان المنتصر يرفع السيف أو الرمح عن عنق عدوه فأصبح يدوس فوق صدره.

لكن ما نراه ليس سينما ولا أفلاما أميركية تعرض آخر أنواع الرشاشات وآخر مظاهر الغدر والفجور الإنساني وازدراء الأرواح، بل هم بشر في اليمن وبشر في العراق وبشر في السودان لا يعرفون بأي رصاص يقتلون. ولا يعرفون سببا أو معنى أو هدفا للهمجيات القاضية بتدمير الدول والأوطان والسلامة والأمن والحياة. ولا يفهمون بأي حق أو شرع أو مفهوم يؤيد زعيم على دولة جريمة القرصنة ويبررها بحجة العوز، فكم من معوز في بلده، وماذا يحق لهم؟

تذكَّر حرب اليمن، بعد 48 عاما على حربها الأولى، بحرب الثلاثين عاما في أوروبا التي شملت القارة ودمرتها وجعلتها تفقد نحو 30% من سكانها. لم يبق بلد منتصف القرن السابع عشر إلا وطالته الحرب، أو طالها. ونحن منذ نصف قرن في حروب إقليمية من أجل تغيير الأنظمة والخرائط. وفي الماضي كانت حروبا محدودة وفيها شيء من العرف والحس الإنساني، والآن هجميات خلف هجميات وبؤس فوق بؤس وتخلف فوق تخلف.

والمشكلة ليست في الحروب ولا في فظاعاتها ولا في رعبها. ثمة ما هو أسوأ وأردأ وأشد انحطاطا. إنه خطاب التخريب وجنون العبث.