شكرا

TT

العام 1963 ذهب وفد سوري ـ عراقي إلى مصر للبحث في وحدة ثلاثية مع الرئيس جمال عبد الناصر الخارج قبل حين من محنة الانفصال. ولم يكن أحد من الفرقاء يريد الوحدة فعلا، لكن الهدف الحقيقي كان إرواء شيء من ظمأ الشعوب العربية التي لم تكتوِ بعد بهزيمة حزيران.

عندما أخفقت المحادثات عمدت مصر إلى نشر نصوصها عبر «وكالة أنباء الشرق الأوسط» من أجل التشهير بالمشاركين وخصوصا بمؤسس حزب «البعث» الأستاذ ميشال عفلق، الذي أخذ عليه أنه يكرر كلمة «يعني» قبل وبعد كل كلمة أخرى.

عثرت في «مقهى الكتاب» في جدة على «محاضر محادثات الوحدة» كاملة في كتاب من 600 صفحة بالحرف الصغير والنقاط الصغيرة و«يعني» يعني، ليس فقط على لسان عفلق، بل أيضا على لسان طالب شبيب وشبلي العيسمي والرئيس لؤي الاتاسي وسواهم. المذهل في «محادثات الوحدة» أن كل الكلام ضدها. سياسيون وضباط ورؤساء يتهم بعضهم بعضا بالتآمر والدفع للمحازيب وتمويل الحملات في الصحف. واستوقف الراحل علي صالح السعدي (صاحب اسحقوهم حتى العظم) الرئيس عبد الناصر مطولا ليتحدث عن خصم في العراق تموله مصر.

تدور المحادثات، محادثات الوحدة، ساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم، ومائة صفحة بعد مائة صفحة، دون الحديث عن أي معاهدة علمية أو زراعية أو اقتصادية أو تربوية. فقط مجلس الدفاع المشترك ينال قسطا من البحث. ليس حول الأسلحة ولا حول الاستراتيجية ولا حول محاربة إسرائيل، بل حول من يعين قادة الجيوش ومن هم الضباط الذين يحق لقادة الجيوش تعيينهم. أي لا دفاع مشترك، بل خوف مشترك ومعلن من التآمر والانقلابات التي كانت شائعة في تلك الأيام. ونصف المشاركين في المحادثات كانوا أو أصبحوا إما أبطال انقلابات فشلت أو ضحايا لها.

ويعني، يعني، كم كان أفضل من دون تلك المحادثات وكم كان أفضل من دون نشر وقائعها. كان الموضوع الوحدة بين مصر وسورية والعراق والحديث في أكثره عن اليمن ومن يذهب إلى هناك أولا. وكان الحديث ليس عن قيام الوحدة والسبل إلى ذلك، بل تفكهة حول إسقاط الأنظمة الأخرى.

وبحثت عن الوحدة العربية المنشودة، أو الطبيعية، في 600 صفحة، فوجدت كلاما فوق كلام وتهما فوق تهم وشكوكا في بطن شكوك، وأشياء صغيرة وأشياء أصغر، وهموما مضحكة في حياة الدول وتاريخ الأمم، ورحم الله جميع المشاركين. لقد وفروا على الأمة محنة انفصال أخرى.