إسرائيل تفجر (اللغم الديني) الأخطر في الصراع

TT

يبدي عقلاء اليهود وعدولهم في عصرنا هذا مخاوفهم الشديدة على مستقبل اليهود ومصيرهم في العالم.. والسبب الجوهري لهذه المخاوف: لا يتأتى من (الأغيار)، أي غير اليهود الذين تجددت فيهم نزعة العداوة لليهود ـ لأسباب عديدة - : في أمريكا والغرب بعامة (نحو 60% من الأوروبيين يعتقدون أن إسرائيل هي أول مهدد للأمن والسلم الدوليين)، وذلك وفق دراسة ميدانية (رسمية) أجرتها المفوضية الأوروبية على شرائح متنوعة من المجتمعات الأوروبية كافة.. إنما السبب الجوهري لمخاوف عقلاء اليهود وعدولهم هو (السلوك الصهيوني) المتطرف المتمثل في سياسات الدولة العبرية، وتصرفات قادتها وعماهم وحماقاتهم، بمعنى أن السبب الرئيسي لمخاوف هؤلاء: (ذاتي) لا (خارجي).

وهذه نظرة عميقة جدا، وراءها (عبرة مريرة) من تاريخ طويل مملوء بالكوارث التي حاقت باليهود على يد اليهود أو على يد فئة حمقاء منهم:

1ـ وراء هذه النظرية العميقة لعقلاء اليهود وعدولهم في العالم: التجربة المرة مع نبيهم (ارميا) في (بيت المقدس) نفسه ((!!!!)).. كانوا في بيت المقدس فاقترفوا فيه من المفاسد ما لا يطاق تصوره فجاءهم نبيهم (ارميا) فنهاهم عما هم فيه فعصوه، وكذبوه، واتهموه بالجنون، وقيدوه وسجنوه، فمكثوا غير بعيد، فجاءهم ، بختنصر فجاس خلال الديار، فحرق ودمر، وحكمهم حكم الجاهلية الوثنية الكافرة والجبروت الطاغي، بعد أن حرق التوراة.

2ـ ثم تكررت ذات التجربة ـ تقريبا ـ مع الرومان.

3ـ ثم تكررت التجربة مع المجتمعات الغربية أو الأوروبية، إذ لم يكن (غلاة اليهود) متعايشين مع هذه المجتمعات كما ينبغي التعايش.

4ـ ووراء هذه النظرة العميقة لعقلاء اليهود وعدولهم: ما جرّه غلاة الصهيونية على اليهود أجمعين في روسيا القيصرية.. اجتهد قيصر روسيا (الكسندر الثاني) في أن يقيم علاقة طيبة بين اليهود والشعب الروسي، فعمد إلى تحسين أحوال اليهود في الوظائف والمعايش واحترام الذات وتقديرها أدبيا، ولكن غلاة الصهيونية اتهموا باغتيال هذا القيصر!! .. وعندئذ جاء خلفه فأنزل باليهود بلاء عظيما، حيث أصدر المرسوم الروسي الشهير.. ومن فقرات هذا المرسوم: ((لقد تجمع اليهود ليس لرفاه الشعب الروسي، بل لخداع هذا الشعب واستغلال فقره . وإذا هب الشعب الروسي ضد اليهود، فإنما فعل ذلك بسبب أنهم نغصوا حياته بسيطرتهم على كافة التجارات والأعمال وأجزاء واسعة من الأرض الروسية)).. وقد قيل في تعليل مقتل القيصر (المتسامح) نسبيا مع اليهود، والذي ينزع إلى إصلاحات معينة في الدولة والمجتمع.. قيل في تعليل مقتله: إن الإصلاحات التي كان يحرص عليها ستكون (سببا) في تأخير الثورة البلشفية التي قرر قادة الحركة الصهيونية تفجيرها في روسيا بعيد الحرب العالمية الأولى (عام 1917)، وذلك وفق نظرية خبيثة جدا يتبناها غلاة اليهود وغيرهم من غلاة العالم من كل جنس ودين.. وخلاصة هذه النظرية الإبليسية هي (إذا أردتم تغيير الوضع القائم أو قلبه فامنعوا بكل وسيلة ممكنة قيام أي إصلاح يجمل وجهه ويطيل عمره، وبمنع هذا الإصلاح تتراكم الأخطاء وتستحيل المخارج والحلول، وساعتئذ تنضج عوامل الثورة فتكون الثورة أو انقلاب الأوضاع).

نعم . كان وراء تلك المخاوف الشديدة لعدول اليهود وعقلائهم في العالم هذا (الإرث الرهيب) من الحماقات التي اقترفها غلاة اليهود والصهيونية فجرّت على اليهود كلهم البلاء والكرب والكارثة والمصائر النحسة. ومما يزيد عقلاء اليهود إزعاجا وخوفا: أن قادة الحركة الصهيونية ـ داخل إسرائيل وخارجها ـ لا يزالون يمضون وهم مغمضو العيون في طريق لا يؤدي إلا إلى مثل الكوارث السابقة، ولا سيما في قضية (القدس).

وهذا صحيح.. والبرهان على صحة ذلك: أن قادة الكيان الصهيوني يزرعون اليوم (اللغم الديني الأعظم) في الصراع العربي الإسرائيلي، أو الإسلامي الإسرائيلي.

ما هو هذا (اللغم) الديني الأعظم والأخطر والأشد تفجرا والأطول عمرا: إلى آماد بعيدة؟

هو (القدس).

ويتوجب على العقل السياسي والأمني والديني: أن يستحضر ـ بموضوعية ونزاهة وسعة إدراك وبعد نظر ـ مشاهد ثلاثة نشأت حول القدس وبسببه:

أ - المشهد الأول هو: أن منطقتنا هذه شهدت حروبا دامية كريهة على مدى قرنين من الزمان، وهي الحروب التي عرفت بـ(الحروب الصليبية) (1291-1095)، وكانت هذه الحروب تدور حول القدس، بمقتضى كذبة كبرى وهي: أن المسلمين يمنعون الحجاج المسيحيين من الحج إلى القدس (ويبدو أن مشهد شن الحروب على أساس الأكاذيب لا يزال مستمرا).. فهذه دعوة لم تثبت ولم توثق تاريخيا.. وإنما كان لقادة أوروبا أطماع اقتصادية وسياسية تزمّلت في شعار أو طلاء ديني.. ويستنبط المؤرخون هذا البعد الاقتصادي المادي من رسالة البابا (أوربان الثاني).. ففي هذه الرسالة التي تحرض الغرب ـ حكومات وشعوبا ـ على قتال المسلمين، نقرأ هذه الفقرة (الدنيوية).. يقول البابا: (( إن الأرض التي تعيشون فيها اليوم والمحصورة بين البحار والجبال هي أضيق من أن تستوعبكم، وهذا هو ما يجعلكم تقتلون بعضكم بعضا ويهلك منكم الكثير، فاربأوا بأنفسكم عن الصغائر، واسلكوا سبيل الله، حيث يوجد البيت، وأنقذوا تلك الأرض، وامتلكوها لأنفسكم، فإن القدس هي أكثر بلاد الدنيا ثمارا، وهي جنة الأفراح ومركز الدنيا)).. إن هذه الحروب ـ أيا كانت بواعثها ومقاصدها ـ سممت العلاقة بين المسلمين والغرب قرونا متطاولة، ولا تزال تسممها حتى اليوم، ومن هنا، فإن (الإحياء الصهيوني) لتلك الحروب ـ ببواعث وإخراج صهيوني ـ سيضرب دعوة الحوار بين العالم الإسلامي وبين الغرب في مقتل.. فالحوار الموضوعي النزيه العادل العاقل يستحيل أن يتحقق في ظل المظالم، والتأجيج الديني العاصف حول قضية بالغة الحساسية والتعقيد مثل قضية القدس.

ب ـ المشهد الثاني هو الطريق الصهيوني للمسجد الأقصى عام 1969. فقد أدى الحريق الأثيم إلى أن يتنادى قادة العالم الإسلامي ـ بمبادرة من السعودية ـ إلى مؤتمر جامع انبثقت منه منظمة المؤتمر الإسلامي بمؤتمريها الدوريين (مؤتمر القمة + مؤتمر وزراء الخارجية) إلى جانب المؤسسات الأخرى العديدة التابعة لهذه المنظمة.. وهذه أول صورة عصرية طوعية للوحدة الإسلامية ـ في صورة ما ـ بعد سقوط الخلافة في عشرينيات القرن العشرين الماضي .. لقد تدارك قادة المسلمين يومئذ الموقف، ولولا ذلك لتفجرت أزمات دامية لا يعلم نهايتها أحد إلا الله تعالى، وهو موقف افتقده المسجد الأقصى والقدس اليوم، إذ لم نسمع كلاما أمنيا صريحا صادقا في هذه القضية إلا من الرجل المؤتمن على الحرمين الشريفين: الملك عبد الله بن عبد العزيز.. ولا غرو فالعلاقة بين المسجدين: الحرام والأقصى علاقة عقدية قرآنية لا انفصام لها.

ج ـ المشهد الثالث هو: (الواقع العاصف) الذي ترتب على تدنيس أريل شارون لمقدسات المسلمين في القدس. فقد تفجرت انتفاضة فلسطينية كبرى غيرت كثيرا من الموازين على الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية.. ولا يزال العميان من بني صهيون ـ ومن يؤازرهم ـ يتلبسون بالتصرفات التي تؤذن بتفجير انتفاضة جديدة عنوانها (القدس) مع احتمالات قوية جدا في أسلمتها سياسيا وعقديا وتنظيميا.. والمؤشرات إلى ذلك أكثر من أن تمحص.. من أعتاها وأظهرها: الغليان الديني المتزايد لدى اليهود، ولا سيما المستوطنون، يقابله غليان أعلى وأوسع في العالم الإسلامي.

وفي هذه المناخات الطافحة بالتصعيد العقدي حول القدس، لن تستقر المنطقة حتى لو قامت الدولة الفلسطينية ((!!!)) والسبب القوي العميق هو: أن إسرائيل زرعت (اللغم الديني) الأخطر في الصراع.. ومما يزيد هذا الصراع حدة وسعيرا ـ على هذا المستوى ـ : إصرار غلاة الصهيونية على (اليهودية الخالصة) لدولتهم.

وعلى الرغم من هذه الأجواء الصهيونية المعادية للسلام، تخرج أصوات منهم تلح على (التطبيع) السريع والشامل مع العرب والمسلمين!! ولعل السياق قد تهيأ ـ الآن ـ لتناول الحملة الصهيونية الخاصة والمركزة على السعودية ـ بوجه خاص ـ .. ففي الكونجرس الأمريكي ، هناك من تقدم بمشروع قانون يطالب بمراقبة وشجب المقاطعة العربية للتجارة مع الكيان الصهيوني.. وإذ يدين هذا المشروع جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، فإنه يصب غضبا مضاعفا على السعودية والسعوديين.. لماذا؟ يقول أصحاب المشروع: إن السعودية هي أقوى الدول العربية والإسلامية شكيمة، وأشدها صرامة، وأدقها التزاما بالمقاطعة.. ثم يضيف هؤلاء سببا آخر هو: والوزن الأدبي والديني والسياسي والاقتصادي للسعودية، وهو وزن لا يزال يعطي المقاطعة فعاليتها، ولِكف الآخرين عن رفعها أو تجاوزها.. ثم لعل السياق نفسه قد تهيأ أيضا لتناول حملة من الدس والافتراء ضد السعودية، وهي حملة نقيض أو متناقضة مع ما سبق.. تقول هذه الحملة المفتراة: إن اجتماعا عقد في لندن ضم إسرائيل وأمريكان وسعوديين انتهى إلى موافقة السعودية على فتح أجوائها للطيران الإسرائيلي لضرب إيران.

فيا أرض ابلعي الكذابين!!.

كيف يقال: إن السعودية هي أصلب دولة في مقاطعة إسرائيل.. ثم يقال ـ في الزمن نفسه - : إن السعودية تتحالف مع الكيان الصهيوني للعدوان على دولة أخرى في المنطقة؟!!.. إن من منهج التعرف على الكذابين: التعرف على تناقضات أقوالهم.. وها قد ضبط هؤلاء وهم متلبسون بهذه التناقضات الصارخة الكذوب.

ونعيد التوكيد على مفهوم فيصل ذكرناه في غير مقال، وغير مناسبة وهو: أن موقفنا ـ نحن السعوديين ـ من اليهود ، لا ينبع من عنصرية عرقية، وذلك لسبب بدهي وهو: أننا ساميون مثلهم، ولا من تعصب ديني، فنحن نؤمن بمصدر وجودهم الديني وهو التوراة ومن أرسلت إليهم وهو موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم.. وإنما هو موقف قائم على مقاييس الحق والعدل، وعلى مقتضى حكم العقل والمنطق، وعلى الحرص على قيم ومبادئ الأمن السلام، ورفض ما يضادها من ظلم وعدوان حتى لو صدر من مسلم.. وهذا هو الدافع القوي في موقف السعودية من صدام حسين حين غزا الكويت واحتلها.. فالاحتلال هو الاحتلال سواء تسمى باسم يهودي أو باسم عربي مسلم.