حول كتاب أركون الأخير أو من أجل عصر عربي آخر

TT

كنت قد ترجمت أخيرا كتابا لمحمد أركون وأصدرته «دار الطليعة» في بيروت تحت عنوان: نحو نقد العقل الإسلامي. تقتضي مني الأمانة القول بأن هذا العنوان يثير مشكلة لدى الوعي التقليدي الذي يعتقد أن كلمة النقد لا تنطبق على العقل الديني هذا ناهيك عن الإسلامي. بل وربما رأى فيها نوعا من انتهاك المحرمات أو التطاول على المعتقدات! ولكن هذا الموقف الخائف إن لم أقل المتحجر ناتج عن عدم فهم لكلمة نقد المستخدمة هنا بالمعنى التاريخي والفلسفي وليس بالمعنى الاستهزائي التجريحي العادي الشائع. فمعظم كتب الفلسفة منذ أيام فيلسوف التنوير الأكبر كانط تتبع أسلوب النقد الفكري لفهم الظواهر فهما عميقا. بل إن العديد منها يستخدم كلمة النقد في مقدمة عنوانه. لنتذكر هنا كتاب كانط الشهير: نقد العقل الخالص، أو نقد العقل العملي. ولنتذكر كتاب سارتر نقد العقل الجدلي، أو كتاب ريجيس دوبري نقد العقل السياسي، إلخ. فكلمة نقد هنا كلمة نبيلة حقا ومفيدة جدا لتوضيح الإشكاليات الكبرى. بل ولا يمكن أن يتقدم العلم خطوة واحدة إلى الأمام بدون غربلة أو نقد. على هذا النحو تقدمت أوروبا منذ عصر التنوير وحتى اليوم بل وحتى منذ عصر النهضة قبل أربعمائة سنة. وأعتقد شخصيا أن العالم العربي والإسلامي كله لا يمكن أن يخرج من ورطته الرهيبة الحالية إلا بعد القيام بعملية نقد وغربلة شاملة لموروثه الديني والثقافي. هذه حقيقة أصبحت واضحة للعيان، يتفق عليها القاصي والداني، علماء الشرق والغرب. فالجمود التاريخي استمر قرونا متطاولة أي منذ الدخول في عصر الانحطاط وإغلاق باب الاجتهاد والنقد قبل ألف سنة وحتى اليوم. وكسر هذا الجمود أصبح ضرورة تاريخية لا مندوحة عنها. وإلا فإن القوى الارتكاسية والظلامية سوف تظل مسيطرة علينا إلى أبد الآبدين. وسوف نظل في مؤخرة الأمم والشعوب. انظر الإرهاب الفكري بل وحتى الجسدي الذي تمارسه المنظمات المتطرفة كـ«القاعدة» وسواها على حياتنا اليومية وعلى شخصياتنا الفكرية والسياسية. وانظر حجم الضرر الناتج عنها ليس فقط من حيث تشويه سمعة الإسلام والعرب في شتى أنحاء العالم وإنما أيضا من حيث عرقلة الجهود المخلصة للخروج من التخلف التاريخي المزمن واللحاق بركب الأمم المتطورة. فكلما شددنا إلى الأمام شدت هي إلى الخلف حتى لأصبحنا معرة ومهزأة لكل شعوب الأرض!

عندما نشر محمد أركون كتابه «لأجل نقد العقل الإسلامي» بالفرنسية عام 1984 كان يقصد منه إخضاع التراث للمناهج النقدية الحديثة التي أثبتت فعاليتها في أوروبا وأدت إلى نهضة الفكر المسيحي واستنارته. فأوروبا أيضا كانت تعاني من منظمات سلفية مسيحية إرهابية لا تقل خطورة عن تنظيم القاعدة. وكانت تعاني من التعصب والتطرف والحروب الطائفية والمذهبية التي مزقتها تمزيقا. ولم تخرج من هذا الانسداد التاريخي إلا بعد أن تجرأت وواجهت المشكلة وجها لوجه. لم تخرج إلا بعد أن طبقت المناهج العقلانية والنقدية على تراثها المسيحي.

قلت في مقدمة هذا الكتاب الصادر عن «دار الطليعة» قبل شهر أو شهرين إن المهمة المطروحة علينا ليست هي نقد العقل العربي وإنما نقد العقل الإسلامي التقليدي الأصولي. لماذا؟ لأنه لا يوجد شيء اسمه عقل عربي أو تركي أو إيراني أو حتى فرنسي أو أميركي أو ياباني. فالعقل البشري واحد في نهاية المطاف. ولكنه يمر بعدة مراحل من التطور التاريخي. فهناك مرحلة ما قبل العقل، وهناك مرحلة ما بعد العقل. بهذا المعنى فإن العقل العربي أقرب إلى العقل التركي أو الإيراني أو الباكستاني منه إلى العقل الفرنسي أو الأميركي أو الألماني. لماذا؟ لأن هذا الأخير مغموس كليا بمناخ الحداثة العلمية والعقلانية الفلسفية والتنوير الديني ما عدا شرائح أصولية ضيقة خصوصا في أميركا. وعموما هناك فرق بين عقلية القرون الوسطى المغموسة غمسا بالغيبيات والخرافات والانغلاقات المتعصبة، وعقلية العصور الحديثة المتحررة منها بفضل انتشار أنوار العلم والفلسفة. إذا ما طبقنا هذا المعيار العريض وجدنا أن شرائح واسعة من مجتمعاتنا لا تزال خاضعة للعقلية القديمة والأفكار البالية بسبب سيطرة التعليم المتخلف والمتعصب على مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا العليا. لهذا السبب يصعب علينا مواجهة التيار المتزمت وجحافل المتطرفين. تلزمنا استراتيجية تعليمية جديدة مختلفة كليا عما سبق. أمام كل كلية شريعة تدرس الدين بطريقة قمعية إكراهية انغلاقية مضادة للعقل ولجوهر القرآن الكريم يلزمنا إقامة كلية جديدة تدرس الدين بطريقة منفتحة، عقلانية، تتماشى مع جوهر الإسلام العظيم. في كل الجامعات العربية والإسلامية ينبغي تدشين كليات جديدة لتدريس تاريخ الأديان المقارن وعلم الاجتماع الديني وعلم الأصوليات المقارن أو علم التنوير المقارن، لا فرق. عندئذ سوف تتراجع شعبية الفئات الضالة المنحرفة بنسبة النصف على الأقل تمهيدا لتهميشها تماما. ذلك أنه لا يمكن أن نربح المعركة السياسية ضدها قبل أن نربح المعركة الفكرية. لأجل ذلك فليعمل العاملون.