خواطر من مدينة القياصرة

TT

سانت بطرسبرغ.

مدينة القياصرة، والتاريخ، والعنبر.

بناها قيصر عملاق، مثير للجدل، اسمه بطرس الأكبر. عملاق بقامته، عملاق بانتصاراته، عملاق بإنجازاته الحضارية. هذا ما يقوله عنه المؤرخون.

بناها قبل ثلاثمائة عام ليجعل منها عاصمة لروسيا القيصرية. شيّد فيها قصورا تعاقب على العيش فيها قياصرة تباينت أقدارهم بين صعود وانحدار.. ومنها اندلعت الثورة البلشفية في 25 أكتوبر عام 1917م وأتت على آخر القياصرة من سلالة رومانوف.

في عام 1924م عمد القادة البلاشفة إلى تغيير اسمها القيصري، فسموها «ليننغراد» تخليدا لذكرى أبي الثورة، فلاديمير لينين.

هذه المدينة سكنت خيالي مرتين. سكنت خيالي وأنا طالب. وسكنت خيالي وأنا وزير.

سكنت خيالي طالبا في الإعدادية عامي 1942 ـ 1943م والحرب العالمية الثانية تبلغ ذروتها من الضراوة والعزم على حسم الأمور. وكانت مدينة «ليننغراد»، هذه، واحدة من مواطن الحسم في المعارك المصيرية الدامية بين القوات الألمانية الغازية، والجيش القومي الروسي المدافع عن أرضه.

أراد (هتلر) الاستيلاء عليها كي يغلق بذلك بوابة الاتحاد السوفياتي على بحر البلطيق، والحيلولة دون وصول الإمدادات الأوروبية إليه. حاصرها الجيش الألماني، وسدّ عليها منافذ التمويل، وعزلها كي تستسلم من غير قتال. إلا أن المدينة، والقوة الروسية المرابطة فيها، عقدا العزم على الصمود. واستأثرت المدينة المحاصرة بالمثير من أخبار الحرب كي يتحوّل كل يوم من أيامها قصة جديدة من قصص البطولة والفداء. وبدأ الإعلام المناهض لألمانيا ينقل مشاهد مفزعة عن صمود «شعب بطل» عاش كل أنواع العذاب، وتحوّلت مدينة ليننغراد رمزا للبطولات وإيثار الموت على الحياة دفاعا عن الوطن.

على أن «هتلر» كان في عجلة من أمره. أطار صوابه أن تستعصي «ليننغراد» على جحافله الغازية. يريد إسقاط هذه المدينة «الرمز» كي يدمّر عزيمة القادة الروس، ويحقق بذلك نصرا يزلزل أركانهم. أصدر أوامره باستهدافها بقصف مدفعي لا ينجو منه بشر أو حجر.

كان مدرّسنا الذي يعلمنا مادة الرياضيات في سوريا عام 1943 يهودياً سورياً اسمه «ألبير جاموس». ولأنه كان مشحونا بعدائه للنازيين، كان كثيرا ما يتوقف عن المضي في شروحاته كي يحدثنا عن «ليننغراد» الصابرة ويثير فينا خيالا يلتصق بالذاكرة التصاقا لا يزول.

وبعد حصار عُرف في التاريخ بحصار التسعمائة يوم تراجع الجيش المُحاصِرْ منكفئا على عقبيه، مدحورا، مطاردا، في حال مذلة من الفوضى والضياع. واستمر الجيش الأحمر في هجومه المضاد يطارد الجيش الألماني إلى أن دكّ معاقل الحكم في برلين في شهر أبريل عام 1945م. وكانت بذلك معركة «ليننغراد» واحدة من المعارك الحاسمة في الحرب إن لم تكن أكثرها حسما وتقريرا للمصير. ويقدر المؤرخون ضحايا الحصار الذي استمر من سبتمبر 1941 حتى يناير 1944م بأكثر من مليون إنسانٍ قتلهم الجوع والبرد والقصف المدفعي المتواصل.

ولم ينته الحديث عن «مدينة الصمود» بعد تحريرها باندحار جيش الحِصار، فقد بدأ الاتحاد السوفيتي حملة قومية لإعادة إعمار المدينة التي ارتفعت بهيبته إلى مراتب الشعب الذي لا يقهر.

وسكنت هذه المدينة خيالي في أعوام الستينات، وأنا وزير في بلادي، بعد أن بدأ العالم يتحدث عن مدينة «الفداء»، وقد تألقت، بعد إعادة إعمارها. وعادت بقصورها، ومتاحفها، وجسورها، وكل شواهد التاريخ فيها جميلة، شامخة شموخ الكبرياء، تباهي بقدرتها على مصارعة الموت والإمساك بالحياة. وتحوّلت «ليننغراد»، بعالمها الجديد، لحدث يتنافس الإعلام للوقوف عنده والحديث فيه. وتكفلت منظمة اليونسكو بالتغطية الوثائقية العالمية للمدينة التي تحوّلت من مقبرة المليون شهيد، إلى مدينة تحتضن أجمل ما أبدع الإنسان في صنعه من إنجاز حضاري.

زارها العديد من أصدقائي العرب وحدثوني عن إبداعات الإنسان فيها، بعد أن كتب إنسانها ملحمة من ملاحم الفداء صنعت تاريخا يُكبره التاريخ. وتمنيت لو أزور هذه المدينة التي تسكن خيالي كما سكنته وأنا طالب صغير.

إلا أن ذلك كان أمرا محظورا عليّ!

كانت العلاقات بين المملكة العربية السعودية والاتحاد السوفيتي علاقة القطيعة، والكره المتبادل المكتوم. كان في هذه العلاقة دولتان. دولة تؤمن بالله، أقامت وجودها على الإسلام، نظام حكم وحياة، ودولة تنكر وجود الله، تحارب الأديان (أفيون الشعوب!) أغلقت دور العبادة، وطاردت المُتعبّدين. فضلا عن التصادم الكاسر في الأهداف السياسية لكلا الدولتين.

كانت المملكة العربية السعودية الدولة الوحيدة في العالم التي رفضت تبادل التمثيل الدبلوماسي مع الاتحاد السوفيتي، في الوقت الذي كان لجميع الدول العربية، من الرباط حتى المنامة، تمثيل دبلوماسي مع موسكو.

ليس هذا فحسب.

بل كان الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز، رحمه الله، يجاهر بعدائه للشيوعية ويرى فيها بلاء على الإنسان. تصادر إرادته، تقتل فيه نوازع الطموح، وتحوله إلى آلة في خدمة النظام الشيوعي. وكان يجاهر، أيضا، بقناعته باستحالة دوام هذا النظام، وحتميّة انهياره في وقت كان الاتحاد السوفيتي في ذروة سلطانه ونفوذه. ولكم سمعته يردّد هذا القول على مسمع من كبار الصحافيين الغربيين وهم في دهشة من أمره!

لقد أتيت على هذه الحقيقة في تاريخ الملك فيصل بن عبد العزيز، في كتابات سابقة، إلا أني أجد نفسي مدعوا للعودة إليها كلما اقتضت المناسبة ذلك كي يعلم الجيل الحاضر ما كان عليه الملك الشهيد من انفراد بصفات نادرة في الرجال.

وترتب على هذه القطيعة في العلاقات أن تعذرت على السعوديين زيارتهم للاتحاد السوفيتي، والدول الأوروبية السائرة في فلكه. كما تعذر، بالمقابل، دخول أي مواطن من أية دولة شيوعية إلى المملكة العربية السعودية.

لم تكن نبوءة فيصل بن عبد العزيز نبوءة نبي! كان ملكا حكيما، ذا بصيرة نافذة، وهبه الله فضائل القائد الملهم الذي لا يقف برؤيته للأحداث عند اليوم الذي يعيش فيه.

ولم ينتظر العالم مائة عام كي تتحقق تلك النبوءة. فلم تمض خمسة عشر عاما على استشهاد الملك العظيم حتى انهار الاتحاد السوفيتي على نحو مباغت أذهل الساسة والمؤرخين.

وقضى فيصل بن عبد العزيز قبل أن يرى صدق ما كان يرى، وصدق ما كان يقول.

وبانهيار الاتحاد السوفيتي تغيّر كل شيء. فلم تعد الأديان «أفيوناً للشعوب»، فتحت الكنائس أبوابها، وارتفعت بالرنين أجراسها، وتسابق المتعبدون يلتمسون البركات من القساوسة، يوزعونها على الصغار والكبار، الصلبان فوق صدورهم، والمباخر في أيديهم. وكم كانت دهشتي وأنا أرى الرئيس فلاديمير بوتين يقف، وقوف الطواعية والقبول، بين يدي الأسقف الأرثوذكسي، يقبّل الصليب، ويلتمس منه البركات وهو الذي كان، لعهد قريب، في ألمانيا الشرقية، عيناً لموسكو ترصد كل أوجه الحياة في تلك الدولة الشيوعية. وكان طبيعياً أن تبادر المملكة العربية السعودية للتعامل مع الحكم الجديد. فتحت السفارتان في موسكو والرياض، وتسارعت وتيرة التعاون بين البلدين لتشمل مجالات الاقتصاد، والثقافة، وربما التسليح أيضاً. وأنشئت أكاديمية سعودية تابعة للسفارة لتعليم الطلبة والطالبات، وتعددت مصادر الأنشطة للتعريف بالإسلام في روسيا الاتحادية، وافتتح في جامعة موسكو قسم الأمير نايف بن عبد العزيز لدراسات اللغة العربية والإسلامية.

ولم ينس السعوديون يوم أن رافقت ثلة من الخيالة موكب الرئيس فلاديمير بوتين رئيس الدولة الروسية وهو في طريقه لقصر الضيافة في الرياض، فهو أمر غير مسبوق في تقاليد المراسم الملكية السعودية.

وفي 8 أغسطس الماضي وجدت نفسي، وزوجتي، في المدينة التي سكنت خيالي مرتين. لم يعد اسمها «ليننغراد»، فقد اختفى اسمها الثوري واستعادت اسمها القيصري الأول: سانت بيترسبورج!

كان لا بد من أن تتداعى كل هذه الخواطر في ذاكرتي ونحن نتجوّل، على مدى يومين، في المعالم التاريخية لهذه المدينة، الاستثناء في الحرب والسلام!

ولا جدال في أن هناك في حياة الناس من إرث الماضي ما لا يفوت على مراقب، لا سيما لدى العاملين في الدولة. رأينا في نظرات الناس جمودا وتساؤلات عما أتى بنا إليهم وماذا نريد! كانت الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا عندما نزلنا من الباخرة لنلحق بالدليل السياحي الذي ينتظرنا الساعة الواحدة والربع على مدخل المدينة. امتنعت موظفات الجوازات عن السماح لنا بدخول المدينة قبل 45 دقيقة من موعدنا مع الدليل!!

ربما كان هذا أمرا مفهوما.

فلا يمكن لهذا الشعب الذي عاش على مدى سبعين عاما، منغلقا على نفسه في ما يشبه العزلة القسرية، خلف ستار من حديد، لا يمكن له أن يبرأ، في عشرة أعوام، أو في عشرين عاما من مساعي التجديد، لا يمكن له أن يبرأ من إرث دكتاتوري مفرط في قسوته، قام على حكم الحزب الواحد، ولجانه الثورية، وطغيان الدولة على الإنسان.

على أن ذلك لم ينل من المتعة في زيارة هذه المدينة، مدينة القياصرة، والتاريخ، والعنبر.

هذه المدينة التي تكاد قصورها، وميادينها، وقنواتها، وغاباتها، أن تحدثك حديث الكبرياء، عن صمود غيّر وجه التاريخ. ولم يعد يُرى فيها أثر للدمار والموت بردا، وجوعا، ودفنا تحت الركام، بل تُرى فيها منازل بديعة الهندسة، أنيقة التكوين، وإرث حضاري متألق كأنها تردد، معاً، أنشودة من أناشيد حب الحياة.

* وزير الإعلام ووزير الصحة السعودي الأسبق والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية