نقابة الصحفيين في مصر.. سلاما

TT

النقابة تشكيل مدني يجمع أبناء المهنة الواحدة في إطار واحد بهدف أصيل هو حماية المهنة وترقيتها. وبكلمة مدني نعنى أنه تنظيم بعيد عن السلطة ولا شأن له بها ولا شأن لها به، أعضاؤها إذن بشر قرروا اللجوء لهذا التشكيل لحماية مهنتهم لأنهم لا يملكون على ظهر الأرض سواها كمصدر للعيش. وصاحب المهنة يمثل طرفا واحدا من المعادلة أما الطرف الآخر فهو المستهلك، ولا وجود لأحدهما في غياب الآخر، وبذلك تكون وظيفة النقابة المتعارف عليها عالميا هي حماية صاحب المهنة من المستهلك وحماية المستهلك من صاحب المهنة. والنقابات في مصر قديمة على الرغم من أنها لم تكتسب اسمها المعاصر إلا في بداية القرن العشرين. كان أصحاب المهن يشكلون طوائف، وكان لابد لكل طائفة من شيخ يقودها وهو ما نسميه الآن النقيب، شيخ النجارين.. شيخ الحدادين.. شيخ الصاغة.. شيخ النحاسين.. شيخ الفحامين .. إلخ.. إلخ. هذا هو الشيخ الذي سيعمل على ترقية المهنة وحماية أصحابها من المستهلكين، كما سيخف لنجدة المستهلكين عند تعرضهم لمتاعب من أعضاء طائفته بوعي أن مجرد عضويتهم للنقابة ليست ضمانة لإتقانهم لمهنتهم ومعاملتهم الحسنة للغير.

ولأن النقابة تشكيل جاهز في الشارع لذلك كان من البديهي أن تهبط عليه أصابع السلطة، وخصوصا الثورية منها، بنعومة أو بغلظة لتبتعد به عن طبيعته الأصلية وتمشي به على قضبان السياسة ضمانا للمزيد من السيطرة على الشارع. هكذا تحولت النقابات إلى ساحات للنفوذ والصراع بين السلطة وأعدائها أو الطامعين فيها أو الخائفين منها أو المبتزين لها، ولا بأس مع هذا الوضع الجديد أن تحصل من ميزانية الحكومة على مبلغ من المال شهريا تحت اسم من المسميات، ساحة يعلن فيها أعضاؤها ليس عن انتمائهم لمهنتهم، بل لأفكارهم السياسية والاجتماعية والدينية، فكان من الطبيعي والحال هكذا أن تضمحل المهنة وتتلاشى، ليس بفعل الإمبريالية العالمية، ولكن بفعل أصحابها بعد أن تخلوا عنها. طبعا ستجد من يرد عليك على الفور: ماذا..؟ هل تنفى عن المهني دوره الوطني؟

بالطبع لا أحد يود حرمان أي مهني من دوره الوطني وخصوصا من المتوترين المشدودين من جماعة «الحقوا الوطن»، وهى تلك الجماعة المتفرغة للدفاع عن الوطن ضد العدو الإسرائيلي الذي عقدت مصر معه اتفاقية سلام، وضد الإمبريالية المتمثلة سابقا في الرئيس بوش، وحاليا في الرئيس أوباما، بالإضافة بالطبع لأوغاد أوروبا الذين تآمروا علينا لصالح بلغاريا في معركة اليونسكو. هم متفرغون لهذه المعركة على مدار الساعة، لدرجة أنهم لا يجدون وقتا يجيدون فيه مهنتهم.

ومنذ ربع قرن تقريبا 1983 اتخذت الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين المصرية قرارا بعدم التطبيع مع إسرائيل، وهو قرار اتخذته بالإجماع. والإجماع في صدور قرارات النقابات يعنى أن مجموعة قليلة العدد من جماعة «الحقوا الوطن» تكون قادرة في مناسبة اجتماعية معينة أو لحظة سياسية ملتهبة على دفع الآخرين بضغط المشاعر الوطنية أو بالابتزاز إلى اتخاذ قرار يبدو ظاهريا أنه صدر عن الجماعة كلها بحر إرادتها. يكفى أن تكون الجمعية العمومية مجتمعة لشأن ما فيظهر فجأة أحد أعضاء جماعة الحقوا الوطن ويصيح بوطنية: فلان مطبعاتي مع إسرائيل.. وأنا أقترح فصله من النقابة.. نفصله.. والا لا..؟

وهنا ترتفع صيحات الموجودين: نفصله طبعا.. نفصله.. هيه.. نفصله..

هكذا فصل كاتب هذه السطور عام 1996 من نقابة المهن التمثيلية، وكنت عضوا في الشعب الثلاث، التمثيل والتأليف والإخراج. الغريب في الأمر أنه تم التحقيق معي قبلها بشهور بتهمة انتهاك قرار مجالس إدارات النقابات الفنية الصادر عام 1981 بمنع (التعاون فنيا مع إسرائيل)، لم تكن تهمة التطبيع قد اخترعت، ولم يكن عفريت التطبيع قد استحضر بعد، ولذلك لم يجد المحقق شيئا يدينني، فقد سافرت إلى إسرائيل في أبريل 1994 وكتبت كتابا عن الرحلة، غير أنني (لم أتعاون معها فنيا) فكان لا بد من التخلص منى بالطريقة الأسهل وهى صوت الجماهير. أما اتحاد الكتاب فلم يجد في أدراجه قرارا جاهزا ليفصلني به، لذلك حرص رئيسه الأستاذ سعد الدين وهبة رحمه الله في أحد اجتماعات الجمعية العمومية على تقديم اقتراح بفصل أي عضو يسافر إلى إسرائيل أو يقابل أي إسرائيلي في أي مكان لأي سبب. وبناء على هذا القرار تم فصلى عام 2001 بغير التحقيق معي، فلجأت إلى القضاء الذي ألغى القرار وأعادني إلى الاتحاد، كان الهدف من القضية هو أن أثبت لاتحاد الكتاب المصريين أنه ما زال هناك ما يسمى بالقانون في مصر، ولذلك قدمت استقالتي من الاتحاد.

غير أنه من حسن حظي وربما من حسن حظ نقابة الصحفيين أنني لم أكن عضوا بها، فقد ظلت هي النقابة الوحيدة التي ظلت ترعى عفريت التطبيع، تقيده بالسلاسل الحديدية وتحبسه في قبو النقابة، ثم فجأة تفك السلاسل وتطلقه على أحد أعدائها، وبالرغم من أنها لم تفصل حتى الآن أحدا بهذه التهمة الطريفة، فإنها تستخدم هذا العفريت لإخافة بعض أعضائها بين الحين والآخر، مثل الزميل حسين سراج المتخصص في الشئون العبرية في مجلة أكتوبر. ومن الطريف أن هذه التهمة وجهت من قبل إلى الأستاذ مكرم محمد أحمد ومع ذلك نجح في الحصول على أغلبية الأصوات التي أوصلته إلى رئاستها. أما آخر الأعضاء الذين أطلقوا عليه عفريت التطبيع فهو الدكتورة هالة مصطفى رئيسة تحرير مجلة «الديمقراطية» التي تصدرها مؤسسة الأهرام، بعد أن استقبلت السفير الإسرائيلي شالوم كوهين في مكتبها داخل مبنى «الأهرام». حتى الآن لا نعرف ماذا سيكون دفاعها في التحقيق الذي تصر عليه النقابة، غير أن المنشور من أقوالها يوضح أنها ليست الوحيدة (المطبعاتية)، وأنها تعرف عشرات الأسماء من الكتاب والصحفيين الذين على علاقة بإسرائيليين، وأن السفير الإسرائيلي سبق له أن زار الدكتور عبد المنعم سعيد رئيس مجلس إدارة «الأهرام» الحالي في مكتبه عندما كان رئيسا لمركز الدراسات السياسية في نفس مبنى «الأهرام»، كما أنه كان بالأمس في زيارة مؤسسة صحفية قومية أخرى لم تذكر اسمها.

النقابة تستند في ممارساتها المزاجية غير المفهومة إلى قرار الجمعية العمومية الذي صدر منذ ربع قرن بالإجماع، مع العلم بأن كلمة الإجماع لم تعد ممجدة في هذا العصر، إنها من ستينيات القرن الماضي الذي عجز معظم المثقفين المصريين عن تجاوزه. وهو قرار فاقد لأي حجية قانونية أو سياسية، لأن السياسة ليست أصلا من عمل النقابات المهنية. وهو قرار يضاد ويعاكس قرارا للحكومة المصرية والبرلمان المصري والشعب المصري الذي وافق في استفتاء على اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، أي أنه لم يكن من حق مخلوق في نقابة الصحفيين أو في غيرها التقدم باقتراح بإلغاء طبيعة اتفاقية أبرمتها الدولة مستخدمة كل تشكيلاتها الدستورية. من حق أي مخلوق ألا تكون له علاقة بكل ما يمت لإسرائيل بصلة، لأنه يخشى الإسرائيليين أو يكرههم أو.. أو.. ألف سبب، ولكن ليس من حقه معاقبة الآخرين لأن لهم رأيا مختلفا ليس خارجا عن القانون.. لاحظوا أنني أتكلم عن دولة وعن بلد عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، وبذلك تكون الطريقة الوحيدة لإيقاف العلاقة الطبيعية بين البلدين هي إلغاء اتفاقية السلام ذاتها، هذا هو ما يجب أن يفعله أعضاء النقابة الرافضين للسلام، أن يطالبوا الحكومة ومجلس الشعب بإلغاء اتفاقية السلام، لأن السلام كما قال نجيب محفوظ هو العلاقات الطبيعية بين الناس.

ولكن لماذا يظهر عفريت التطبيع في النقابات الفنية والجماعات الثقافية والصحفية فقط؟ لماذا لم يظهر في كل الميادين التي تتعاون فيها إسرائيل مع مصر؟

أما حكاية أن مكافحة التطبيع هي الورقة الأخيرة في الضغط على إسرائيل فمن الناحية العملية هي تستخدم فقط في الضغط على المثقفين المصريين لإخافتهم ومنعهم من التعبير بحرية عن آرائهم. أليس من المدهش أن الأغلبية التي صوتت ضد التطبيع هي ذاتها التي صوتت لصالح الأستاذ مكرم محمد أحمد ليصبح رئيسا للنقابة؟

لقد انتقلنا باتفاقية السلام مع إسرائيل من صراع الحرب إلى تنافس السلام، وهو ما يحتم علينا جميعا أن نكون الأكثر عملا والأقل هتافا، إن إرجاء الدخول في معركة تنافس السلام يحرمنا من قوتنا الراهنة والمحتملة بفرض وجودها ويعود بنا إلى الوراء، لم يعد من المجدي السير إلى الوراء أو التسمر في المكان تحت شعارات نحن أول من يعرف أنها كاذبة.