محادثات ومباحثات ومفاوضات

TT

سيطر اللقاء الذي عقد الخميس الماضي بجنيف بين إيران ومجموعة الخمسة الدائمي العضوية بمجلس الأمن، زائد ألمانيا، على مانشيتات الأخبار، فما أن تقرأ صحيفة إلا وتطالعك صفحتها الأولى بهذا اللقاء، وما أن تدير مذياعا أو محطة إخبارية تلفزيونية حتى تبادئك بخبر اللقاء وهكذا. ولقد تم تداول كلمات المباحثات والمحادثات والمفاوضات لوصف هذا اللقاء، وهو ما يثير التساؤل: هل جرت محادثات أو مباحثات أو مفاوضات؟ وما هو الفرق بينها في لغة السياسة؟

المحادثات مشتقة من حدث، وهي في اللغة تعني وقع الشيء، و«أحداث الزمان» تعني مصائبه، فاللقاء ما لم يحل معضلة البرنامج النووي الإيراني فإن أحداثا ـ أي مصائب ـ قد تقع في المنطقة ـ لا سمح الله. كما أن كلمة حدث تعني عكس قدُم، كأن نقول «لعل في هذه المحادثات حدث ـ أي جديد»، إذ على المتحادثين أن يحدثوا أي يبتدعوا جديدا بدلا من تكرار المواقف التي قادت إلى التوتر في المنطقة. والحدث هو الأمر المبتدع في الدين، وفي الحديث أن «كل محدثة بدعة»، فما كل حدث جيد بالضرورة. والحدث هو الفتى المراهق، فنقول «سجن أو نيابة الأحداث» الذين لم يبلغوا السن القانونية في بلد ما، وعسى أن يكون حديث اللقاء حديث قوم عقلاء ناضجين، وليس حديث أحداث لا يحسبون للأمور عواقبها.

ولعل رئيس الوفد الإيراني، جليلي، يحدثُ حدثا، أي جديدا، كي يجنب المنطقة حدثا جللا ـ أي مصيبة كبيرة. ولقد حدّث المراسلون ـ أي رووا ـ أن لقاء «حميميا» تم بين الوفدين الإيراني والأمريكي على هامش المحادثات، واللقاء بحد ذاته محدثة حسنة عسى أن نرى نتائجها. وعلى عكس المراهق فإن الرجل الحَدِث هو الحسن الحديث، وكذا بدا الوفد الإيراني، فلقد كان وفدا حدِثا بمؤتمره الصحافي بعد اللقاء، على عكس اللغة التي يتكلمها الإيرانيون في طهران. فالمسؤول الإيراني حدّيث في بلاده ـ أي كثير الحديث ـ من أجل الاستهلاك المحلي أو ربما لمآرب أخرى.

والحديث علم قائم بذاته في تراث المسلمين ينقل أقوال وأفعال النبي محمد (ص).

وتبدو كلمة «مباحثات» أعمق معنى في سياق وصفها للقاء بين الجانبين الإيراني والخمسة زائد واحد من كلمة محادثات، فالبحث أدق وأشمل وأكثر تفصيلا وذو مدلولات علمية، وليس حديث «كلام يا عبد السلام» ـ كما يقول المصريون، أو «حكي بلا طعمه» ـ كما يقول أهل الشام. الإيرانيون يريدون محادثات، ونظراؤهم الستة يريدون مباحثات، فالبحث يعني طلب الشيء تحت التراب كالذهب والمعادن، وهو بالضبط ما ينشد الستة الوصول إليه في مفاعل ناتنز وبوشهر وقم الذي كشفت عنه إيران قبل أيام مستبقة المباحثات. فالمطلوب بحث معدن اليورانيوم الموجود في مفاعلات إيران التي تقع تحت الأرض.

والدكتور محمد البرادعي ـ رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية ـ رجل بحّاث ـ أي كثير البحث، وقد انتقد إخفاء إيران لمفاعلها في مدينة قم طيلة هذه المدة مخالفة بذلك قواعد الوكالة وشروطها التي وقّعت إيران عليها. لكن إيران لم تباحت (بالتاء) ـ أي تكاشف ـ الوكالة الدولية ببرنامجها السري في قم، مما عزّز شكوك منتقديها، وأحرج بعض مؤيديها. وتكررت كلمة المفاوضات لوصف اللقاء، وهي تعني لغويا المشاركة والمساواة في شيء، ويطالب الستة إيران أن تفاوضهم ـ أي تشركهم بما لديها من بحوث وتصنيع نووي. والمفاوضات في علم السياسة الحديث تعني التشاور حول مشكلة لحلها بالطرق السلمية. وتبدو الجولة الأولى من هذا اللقاء مفاوضة أي مساواة بين الجانبين، لكن الجانب الأمريكي حذّر من أن المفاوضات لن تكون بلا نهاية.

الإيرانيون يريدون «المحادثات» فقط، والستة يريدون «المباحثات» تحت الأرض، والعالم يريدون «المفاوضات» والمساواة التي تقود إلى السلام وإنهاء الأزمة.