الانتحار

TT

تدفعني حالات الانتحار المتزايدة التي تنشر أخبارها الصحف إلى التفكير طويلا في فداحة هذا الفعل الذي يقدم عليه سنوياً نحو مليون شخص حول العالم، منهم المثقف، والعالم، والثري، ومنهم الجاهل، والمعدم، والبائس، وتتوزع خارطة المنتحرين على كل الدول والمناطق، وإن ظلت معدلاتها ـ بطبيعة الحال ـ تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة لأخرى، بحسب المكون الثقافي المتصل بهذه المسألة.

وجل علماء النفس يشيرون إلى أن من أهم أسباب الانتحار الشعور بالوحدة، والعزلة، وفقدان التواصل مع الآخرين، وفي هذه الظروف يتضخم الإحساس داخل البعض بأنه غريب في عيون الآخرين، والآخرين غرباء في عيونه، ولو تأملنا واقع إنسان هذا العصر، المحــاصر بغابات المدن الإسمنتية لأدركنا مدى عزلته ووحدته واغترابه الداخلي، ففي هذه المدن تتعثر الكثير من سبل التواصل، ناهيك عن تباعد المسافات بين الأفراد داخل الأسرة الواحدة والبيت الواحد.

والناس في التعامل مع الحياة ينقسمون إلى نوعين: نوع أقرب إلى الجمال التي تسير ـ كما يقول باولو كويلو ـ آلاف الخطى من دون أن تبدي أي إشارة على تعبها، ثم تقع فجأة على ركبتيها وتنفق، والنوع الآخر أقرب إلى الخيول، تتعب تدريجياً، لكنها تعرف دائماً طاقاتها، واللحظة التي يمكن أن توصلها إلى الموت، وجل المنتحرين هم من النوع الأول الذي لا يحسن التوقف بين الحين والآخر لمنح نفسه فرصة تخفيف عبء ضغوطاتها، بكسر سياجات العزلة، وتوسيع مساحات التقبل للآخرين. ولو ألقينا إطلالة على الرسائل التي يتركها المنتحرون خلفهم لوجدنا أن جلها يلقي مسؤولية مصيره على الآخر، ويحمله مسؤولية وحدته وقلقه وخوفه.

وفي الساحة العلمية اليوم جهود تحاول استباق عمليات الانتحار بمحاولة حصر وتحديد الأشخاص الذين لديهم الاستعداد للإقدام على مثل هذا الفعل، ومحاولة مساعدتهم على تجنب هذا المصير، وفق منظومة من الوسائل والأساليب الدينية والنفسية والطبية، لكن ما يمكننا فعله في اللحظة الحاضرة ـ حتى وصول العلم إلى غاياته ـ يتمثل في ضرورة العمل الجاد على تنمية وتعميق قنوات التواصل الاجتماعي، واستعادة روح الأسرة الذي افتقدناه من ركاب الأيام، وهي دعوة ـ في الوقت ذاته ـ لإسقاط الحواجز والموانع والسدود المصطنعة التي باعدت المسافة بين الإنسان والإنسان.

[email protected]