بطولات منسية

TT

من عيوبنا أننا قلما نتذكر أبطالنا ممن جادوا بحياتهم من أجلنا ونذكرهم بالخير. والبطولات في رأيي تتجسم في الدفاع لا في الهجوم. هكذا يعتز الروس بدفاعهم عن ستالينغراد والألمان بدفاعهم عن برلين ويعتز الإنجليز بمعركة دانكرك. ومن بطولات الفينيقيين دفاعهم عن قرطاجة يوم قامت نساؤهم بقص جدائل شعرهن ليعملن منها حبالا للمنجنيقات. وفي مدينة لوسرن رأيت نصبا كبيرا أقامه السويسريون أدرجوا عليه أسماء كل المقاتلين السويسريين الذي قتلوا في الدفاع عن القصر الملكي إبان الثورة الفرنسية.

من هذا النوع من البطولات الوقفة التي قام بها نفر قليل من أبناء الجنوب العراقي في صمودهم ضد الزحف البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى. ليس لها أي ذكر في كتبنا سوى ما قرأته عنها في مذكرات عبد العزيز القصاب الذي كان مسؤولا عن قطاع السماوة. كان الإنجليز قد تقدموا في زحفهم من البصرة نحو الناصرية. ولم يكن أمامهم غير فوج صغير من الجيش العثماني. اعتمد الأتراك على المتطوعين العراقيين. فهب الكثير منهم تطوعا للذود عن ديار الإسلام. جاءت حتى كتائب كردية منهم من كردستان إلى الجنوب ليدافعوا عن العراق. ولم تكن هناك وسائل منظمة لإقاتتهم وتموينهم. فتطوعت نساء السماوة للمهمة فرحن يخبزن الخبز ويطبخن التمن لإطعامهم. من أين جاءوا بالطحين؟ نهبوه من مخازن الحكومة!

عهد القائد العثماني سليمان بك بالدفاع عن البرجسية لخمسة وأربعين مجاهدا من أتباع عجمي السعدون. أدركوا صعوبة المهمة فعاهدوا الله على الموت. جاءوا بحبال وشدوا أنفسهم بعضا ببعض لئلا يجبن أحدهم ويهرب من ضراوة القتال فيؤثر على معنويات الآخرين. وبدشداشاتهم وأشماغاتهم وأسلحتهم العتيقة من بنادق شنايدر، ساروا حفاة الأقدام وأخذوا مواقعهم وانطلقوا ينشدون هوسات (أهازيج) القتال التقليدية:

أبواب الجنة مفتوحة

نتسابق للموت عليها

نرضي الله ونتنومس فيها

راحوا يتساقطون واحدا بعد واحد أمام كثافة نيران الرشاشات البريطانية حتى لفظ آخرهم أنفاسه الكريمة وهو ينشد أبواب الجنة مفتوحة. دخل الإنجليز المدينة ليسمعوا بأن القائد العثماني سليمان بك قد أخرج مسدسه وأطلق النار على نفسه، وانتحر شعورا منه بسوء تدبيره للمعركة.

ماتوا ومات ذكرهم معهم. ينتظر المرء أن يقام لهؤلاء الخمسة وأربعين نصب تذكاري تدرج عليه أسماؤهم بحروف من ذهب، محفورة على الصخر. كلا فقد أقاموا خمسا وأربعين نصبا لصدام حسين بدلا منهم.. وأكثر.