التاريخ المعاصر توقعاً لأربعة أغلفة قديمة

TT

اشترى ابني من «سوق البرغوت»، في وسط بيروت التجاري، مجموعة من الاشياء العتيقة لكي يقدمها اليّ، بينها نسخة من «النهار» بتاريخ 18 ايلول 1970، فيها زاوية لي عن بنغلادش، ومعها بضعة اعداد من «التايم» تراوح تواريخها ما بين 1968 و1978، وتحمل اغلفتها صور جمال عبد الناصر وانور السادات (في كامب ديفيد) وشاه ايران ودنغ كسياو بنغ. واخذت بدافع السلوى، اراجع المجموعة. لكنني كلما قرأت فيها لاحظت ان العالم تغير من حولنا على نحو كاسح، في حين ان القضايا المحلية المثارة في ذلك العدد من «النهار» لا تزال نفسها، او ازدادت سوءاً وحدة. اما في العالم العربي وفي القضايا العربية وفي الصراع العربي ـ الاسرائيلي، فإن شيئاً على الاطلاق لم يتغير. لقد غابت بعض الوجوه، بالعمر او المرض، وقتل انور السادات، لكن شيئاً آخر لم يتغير. ومن اغلفة «التايم»، وحدها، نعرف ان الصين قد تحولت من نظام شيوعي صارم الى نظام يبيع رخصة الهاتف النقال الى «فودافون»، وان ايران قد انتقلت من الشاه الى الثورة، وان قمة الاحزاب الشيوعية في موسكو (حزيران 1969) التي تمثل فيها 75 حزباً وصفّاً طويلا من الزعماء الذين يحكمون ثلث العالم، لم يعد من الممكن ان تعقد في اي مكان. جميع الحاضرين غابوا: ماو وبرجينيف وتشاوسسكو وتيتو. وجميع انظمتهم قد زالت ولم يبق سوى فيدل كاسترو، على الضفة الاخرى من الولايات المتحدة.

جاء زعماء العالم الشيوعي يومها الى موسكو لكي «يبحثوا في القضايا الأكثر الحاحاً اليوم: الكفاح ضد الامبريالية ووحدة العمل الشيوعي»! الا يبدو هذا الكلام الآن وكأنه كتب في القرن التاسع عشر، او الثامن عشر؟ الصين تستورد سيارات «الفيراري» حمراء، بلون كتاب الرفيق ماو، وموسكو تغير واجهات محالها ومخازنها للحاق بالتجارة الاكثر ازدهاراً في روسيا: العطور والثياب الفرنسية! اننا هنا لا نقرأ عن المتغيرات في كتب التاريخ، وانما في حقبتنا وفي مرحلة شهدها معظمنا وعاشها وسمع اخبارها في يومياته وليس في محفوظات المكتبة الوطنية. والمتغيرات السياسية هي الزلازل الاكثر تأثيرا في تغيير ملامح العالم. فلو لم تسقط الشيوعية كأيديولوجيا واطار سياسي عام، لما كان النظام الرأسمالي قد تمدد في انحاء الكرة مثل نهر جارف، بحيث نرى محمد الفايد ذاهباً الى منغوليا للاستثمار، في بلد لم يكن يفتح بابه لضيف اجنبي ما لم يكن اميناً عاماً في حزب شيوعي آخر. اننا لا نستطيع ان نحدد على وجه الضبط ما هو الحدث السياسي الذي ادى الى هذا الانهيار الثلجي الهائل الحجم وجرف معه فكا من فكي العالم. اين بدأت كرة الثلج الصغيرة عملية الجرف؟ في انتهاء حرب الفييتنام وخروج اميركا من دائرة العنف المباشر مع الشعوب؟ في افغانستان وسقوط القوة العسكرية السوفياتية؟ في ربيع براغ، يوم بدا ان الحرية اهم من الخبز؟ في سقوط تشاوشسكو؟ في وفاة تيتو؟ في وفاة ماو؟. ثمة احداث تبدو متشابكة ولكن غير مترابطة على الاطلاق. احداث مثل قلادة متعددة الحبوب، لها خيط واحد والف لون، فماذا لو استمرت حرب اميركا في جنوب شرقي آسيا خمسة اعوام اخرى؟ الم يكن ممكنا ان يبدأ الانهيار فيها بدل روسيا؟ الم يكن ذلك ليؤدي الى المزيد من السيطرة السوفياتية في المعسكر السوفياتي في العالم الثالث؟ الم تكن حرب فرنسا في الهند الصينية (الفييتنام) هي التي ادت الى سقوط الامبراطورية، وكذلك فعلت حروب بريطانيا في بلاد «الملايو» وعدن والسويس بعد حرب الاستقلال في الهند؟ هل يصح القول ان معادلة التغيير الكبرى هي هذه: خروج اميركا من سايغون وانهاء حروبها الاستنزافية، ودخول موسكو في افغانستان وحربها الاستنزافية؟

لا ادري، لكن عندما اقلب اغلفة «التايم» اشعر وكأنني اعيش في عالم جديد، لا علاقة له بالعالم الذي كنت اعيش واعمل فيه العام 1970. وبدت نسخة «النهار» التي حملها ابني من «سوق البرغوت» مجموعة صفحات ذلك اليوم. والفارق بين الصحافي وغيره انه يقحم في التاريخ شاهداً عليه. او بالاحرى شاهدا ضده ومعه. وفي النهاية يكتشف ان كل ما فعله هو المشاركة في احصاء التكدس التاريخي ومراقبة النهر، جارياً جارفاً لا يلوي على شيء. وتبقى اغلفة «التايم» مثل صور عائلية على الجدار، تذكّر بتغير المعالم والوجوه وتسارع الاعمار والاحداث وتقدم الامم والشعوب، او انجرافها نحو المزيد من الفقر. والفقر تخلف، ولا وصف آخر له. لأن الفقر لا يلد سوى الفقر ولا ينتج سوى الفقر. انه مأساة الافراد وعاهة الامم. لقد كانت الصين دولة هزيلة عندما كانت دولة فقيرة. هي وملايين ابنائها. وكذلك كانت الهند. وقد شعرت بحزن حقيقي عميق وانا اقرأ خطاب الملك محمد السادس معلناً ان 4 ملايين مغربي يعيشون في «مدن الصفيح». انه رقم مفزع، في بلد مثل المغرب، قادر بطاقاته الكامنة وثرواته الدفينة ان يكون ذات يوم ركناً من اركان دول العالم الثالث. لكن صورة الفقر تلاحق المغرب كما تلاحقه تلك الصور التي رسمها محمد شكري في سيرته المتعددة الفصول، الوحيدة الايقاع، العالم يتغير من حولنا ونحن موطن الازمات والحروب الاهلية، من الاردن الى لبنان الى السودان الى اليمن. والآن حرب الحروب في الجزائر. وقد عاتبني زميل جزائري عزيز لأنني كتبت عن «رتابة الموت» في الجزائر ورأى في ذلك نيلاً من «حيوية» الشعب الجزائري. وقد طفقت اسأل نفسي، اليست هناك «حيوية» سوى في الموت والقتل؟ الا مكان آخر لها؟ اليس هذا القتل المجاني نقيضاً للحياة والحيويات والمستقبل؟

يتساءل الكاتب الجزائري مصطفى بنشنانة في «ارابيز» عن ذلك «الغد الذي يغني» الذي وعدت به جبهة التحرير الجزائرية طيلة سبع سنين من حرب الاستقلال. ويقول ان الاكثرية الساحقة من الشعب الآن لم تعرف الحرب، بينهم 60% دون العشرين من العمر: «ان طموحات هؤلاء مشابهة لاحلام الفرنسييين والهنود والتشيليين: الحرية وحسن الحال. ولقد حدث تقدم في الحرية. فالنظام الجزائري لم يعد نظاماً ديكتاتورياً. اما بالنسبة الى حسن الحال فيبدو اليوم انه ابعد منالاً من اي وقت مضى».

وانقل عن الكاتب الجزائري ايضاً المقطع التالي، لكي لا اتهم بأنني من يتحدث عن «رتابة الموت»: «ان العنف يشكل جزءاً من تاريخ الشعوب. لكنه تخطى في الجزائر الحدود التي يمكن تخيلها بشريا. ان هؤلاء الذين يرتكبون هذه الاعمال لا يأتون من الخارج. انهم جزائريون». ولم انقل اشياء اخرى من المقال. ليس خوفاً من العتب. فالمأساة الجزائرية تفوق كل عتب. وكل مقال.