المنفى والكريستال

TT

يطيب للشعراء والكتاب العرب استخدام كلمة «المنفى» في سهولة مذهلة. فكل مسافر هو «منفي» لمجرد انه شاعر. والجلوس في مقهى «الفوكتس» طوال النهار على الشانزيليزيه، ينتهي دائماً بقصيدة نثرية عن «المنافي البعيدة» لأن المقهى ليس على رصيف في بيروت او دمشق او بغداد. واعترف بأنني انضممت في بداياتي الى جمعية الشعور بالنفي. فما ان وطأت ارض باريس في رحلتي الاولى، حتى تحولت من شاب يحلم «بمدينة الضوء» الى رجل يكتب عن... منفاه! فلماذا لم تكن باريس كلها في استقبالي، ولماذا لا يدري كل هؤلاء الناس بوجودي، ولماذا السماء رمادية وغير صافية مثل سماء بيروت، واين اهلي واصدقائي والفتاة التي احب؟ اذن، انا منفي، اكتب: منفى، باريس منفى، المنفى الباريسي، اكتب، ارجوك ان تكتب.

يحول كل كاتب حزنه الداخلي الى «منفى» يحمله معه الى كل مكان. وقد تأثر الكتّاب والشعراء العرب بقصائد المنفى التي كتبها الاوروبيون، فنفوا انفسهم من اجل ان يكتبوا مثلها. وباستثناء الجواهري الذي حول منافيه المتنقلة الى ملحمة متعددة العواصم، فإن معظم المنفيين كتبوا في الانتحاب على جدران المنفى بدل الكتابة عن اسباب النفي والمناخات التي اوصلت اليه. والارجح انهم ادركوا مسبقاً انه لا بد من ابقاء طريق العودة مفتوحاً او مشقوقاً. فلا شيء يدوم. وقد كان الكسندر سولجنستن اشهر منفي في القرن العشرين. وامضى عقدين كاملين في الولايات المتحدة معزولاً في الصقيع، لكي يعد مجلداً من ثمانية اجزاء عن الطغيان الستاليني في روسيا. وكان يأمل بأن يكون ذلك تتويجاً لاعماله الادبية التي جعلته اشهر كاتب روسي بعد عمالقة القرن التاسع عشر لكن قبل ان يفرغ سولجنستن من عمله الضخم بقليل، كان الاتحاد السوفياتي كله قد سقط، ولم تعد دور النشر مهتمة حتى بطبع الكتاب.

العام 1967 اصدر الكاتب التشيكي ميلان كونديرا اول رواياته (الدعابة). وبعد عام دخل السوفيات الى براغ فصودر الكتاب ومنع وطارت شهرته، اين هي فصول الرواية اليوم؟ اين الستار الحديدي؟ اين هو النظام الذي يحكم على بطل الرواية، لودفيغ، بالعمل ست سنوات في المناجم، بسبب بطاقة بريدية تسخر من الحزب الشيوعي. لعل الدعابة او المزحة الحقيقية الآن هي ان رئيس تشيكيا كاتب مسرحي ومنشق سابق. الدعابة هي ان كتابات رجال مثل كونديرا ساهمت في اسقاط النظام الذي عزل الكسندر دوبتشك من الرئاسة (ربيع براغ) وعينه مديراً لمعمل صابون في براتيسلافا. او هكذا اعلن وقتها. لكن صديقاً فلسطينياً من اصدقاء دوبتشك صحح لي بأنه زاره خلال فترة نفيه فوجده مديراً في معمل... للكريستال.