السودان: من مروي إلى نيويورك

TT

في منتصف الشهر الماضي نشرت صحيفة Globe and Mail الكندية، التي تعادل «الفاينانشيال تايمز» البريطانية في اهتمامها بالتغطيات الاقتصادية، مقالا عن اكتشافات اثرية في شكل مدينة كاملة في شمال السودان عاشت قبل ألفي عام تلقي الكثير من الاضواء على الحضارة النوبية وربما توضح الكيفية التي انتهت بها مملكة مروي. وأشار المقال الى وجود 30 بعثة آثار من تسع دول، من بينها كندا، تشارك في برنامج نشط للكشف عن ابعاد الحضارة المروية التي غطت عليها الحضارة المصرية الارقى والاقوى، رغم ان اللغة المروية تعتبر ثاني اقدم لغة مكتوبة، ولو انه لم يتم فك كامل رموزها بعد.

المقال يعتبر استثناء للتغطيات الاعلامية النمطية عن السودان التي تركز كلها على قضية الحرب الاهلية وتبعاتها ثم النفط كعنصر في تأجيج نيران الحرب.

مروي، التي تقع على بعد 350 كيلومترا شمال الخرطوم العاصمة، عادت الى الاضواء مرة اخرى الاسبوع الماضي بعد طرح العطاءات الخاصة بتنفيذ الخزان المسمى عليها. حجم الكهرباء التي يتوقع توليدها من هذا الخزان يمكن ان تبلغ 1250 ميغاوات، او ضعفي الطاقة الكهربائية المصممة عليها المحطات القائمة حاليا من مائية او حرارية وربما ثلاثة اضعاف ما يتم توليده فعليا.

اثر هذا الخزان يتجاوز فكه لاكبر حالات الاختناق التي يعاني منها الاقتصاد السوداني في الوقت الحالي بكل ما لذلك من نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية.

على ان للبدء في تنفيذ المشروع دلالاته الاخرى وعلى رأسها ان اربعة صناديق عربية هي الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، الصندوق السعودي للتنمية، الصندوق الكويتي وصندوق ابوظبي ستوفر في ما بينها مبلغ 780 مليون دولار لصالح المشروع، الامر الذي يوفر له ارضية صلبة للانطلاق وجذب ممولين آخرين. وتعتبر هذه الخطوة اكبر عملية انفتاح عربية على الحكم الحالي في شكل مساندة مالية عملية لواحد من اكبر المشروعات، التي تعيد رسم صورة السودان مستقطبا لرؤوس الاموال العربية بعد اكثر من عقدين من الزمان من الغياب واضمحلال شعار السودان سلة خبز العالم، الذي حل محله سودان المجاعات والجفاف والحرب الاهلية.

الاندفاعة التي شهدها السودان في عقد السبعينيات نحو التنمية لم تكن لتتم لولا عقد اتفاقية اديس ابابا عام 1972، التي وضعت حدا للحرب الاهلية الاولى مع متمردي جنوب السودان، فتحت الباب امام شيء من الاستقرار والالتفات الى البناء وترويج امكانيات البلاد الطبيعية.

وبنفس القدر فليس من المصادفة ان يتم تسارع الخطى خلال العامين الماضيين التي توجت بالموافقة على الاسهام في تمويل هذا المشروع الضخم، وهي ذات الفترة التي شهدت شيئا من الانفراج السياسي والاعلامي في العلاقات السياسية الداخلية والاقليمية.

الاسبوع الماضي شهد كذلك تأجيل بحث مجلس الامن في طلب السودان رفع العقوبات المفروضة عليه منذ مطلع عام 1996 بسبب اتهامه بايواء العناصر التي شاركت في عملية محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك. التأجيل جاء بسبب اتفاق بين السودان والولايات المتحدة، وهو ليس الاول من نوعه. واذا كانت واشنطون تذرعت في المرة السابقة ان ادارة بوش لا تزال تدرس الملف بعد توليها السلطة وانها تحتاج الى فترة لبلورة سياستها تجاه السودان، فمن الواضح انها هذه المرة تعاني من تضارب واضطراب بسبب تداخل المصالح وطغيان العامل المحلي من مجموعات الامريكان السود، وغلاة المسيحيين وجماعات حقوق الانسان، الامر الذي يجعلها مشلولة الى حد ما في اعتماد سياسة قائمة على ارادة سياسية تسندها آلية مهنية.

ويظهر التباين في بروز مجموعات الضغط التي تمكنت من تمرير قانون سلام السودان في مجلس النواب بأغلبية ساحقة، ويدعو في بعض فقراته إلى معاقبة الشركات الأجنبية الناشطة في ميدان الاستثمار النفطي في السودان، وهي الفقرة التي تعارضها الإدارة الأمريكية علنا وعلى مختلف مستوياتها لخوفها من انعكاساتها السلبية على صورة الولايات المتحدة المنافحة عن انفتاح الأسواق العالمية. وهناك ايضا الفشل في تسمية مبعوث رئاسي لقضية السودان رغم الإعلان قبل ثلاثة أشهر أن هذه الخطوة على جدول الأولويات، بل واعتذار اثنين من الذين تم ترشيحهما للمنصب، وكذلك العجز عن استخدام العون الإنساني الضخم الذي تقدمه أداة في تحركها السياسي لوقف الحرب الأهلية في السودان.

هذا الشلل الذي يحيط بسياسة واشنطون تجاه السودان ينبغي أن يكون مثار ترحيب لكل القوى المناهضة لفكرة تدويل المشكل السوداني، على أنه سيكون من قصر النظر أن يقتصر الترحيب على ترك الأمور على ما هي عليه، وإنما الأصوب تحجيم العنصر الخارجي إلى مساند للجهود السودانية الداخلية والذاتية لحل مشاكلها.

وخير ما يمكن أن تتجه إليه هذه الجهود القيام بنقلة نوعية بأمل قفل الثغرات وتغيير المناخ الداخلي في إطار تحول سلمي ديمقراطي ملموس يرسل رسالة أقوى من تلك التي يوجهها الشروع في تشييد سد مروي.

ففي الأفق تبدو بوادر سانحة جديدة تعطي السودان فرصة ثانية لاستقطاب رؤوس أموال أجنبية وتنمية موارده الهائلة، وإذا كان وجود النفط هذه المرة يشكل عاملاً محفزاً، فإن هناك دروس التجربة السابقة الثرة التي تشكل رصيداً يمكن أن يدفع بعملية البناء الاقتصادي إلى الأمام.

وأول هذه الدروس ان التنمية تحتاج إلى الاستقرار السياسي بقدر ما تحتاج إلى الحرية حتى تتم تحت أضواء الرأي العام الكاشفة بالصورة التي تحاصر اتجاهات الفساد إن لم تمنعها كلية، وتوفير البدائل للمشروعات المقترحة في إطار من الحوار الذكي الراشد والمسؤول.

والجدل الذي تشهده الساحة السودانية، حول تصريحات وزير المالية عبد الرحيم حمدي عن رهن عائدات النفط للقيام بمشروعات تنموية مؤشر إيجابي في هذا الصدد. فالوزير يرى ضرورة استغلال أي موارد حالية او مستقبلية لاختراق حالة التردي التي تحيط بالبنية الأساسية بعد عقود من الإهمال. والمعارضون يتخوفون أن تؤدي هذه السياسة إلى نفس النتائج التي ادت اليها الاندفاعة السابقة على أيام الرئيس الأسبق جعفر نميري برهن عائدات محصول البلاد الرئيسي وهو القطن لتمويل المشروعات، وهو الأمر الذي ادخل البلاد في دائرة الديون الجهنمية التي تجاوزت 20 مليار دولار في الوقت الحالي.

وفي الحقيقة فإن العيب ليس في مبدأ الرهن نفسه وإنما في طريقة استغلاله، وهل سيكون لصالح مشروعات إنتاجية تدر هي نفسها دخلا اضافيا، أم تذهب للاستهلاك وإلى جيوب المنتفعين، مما يحمل البلاد أعباء جديدة بدون وجه حق.

مثل هذا الجدل لم تشهده التجربة التنموية السابقة، لكن لكي لا تصبح الحرية الصحافية تنفيسا فقط وبدون تأثير على صاحب القرار، أو أن يختزل الأمر في تصريحات سياسية عامة لا تقدم أو تؤخر، فإن هناك حاجة ماسة إلى الارتباط والترابط مع مفردات العملية الديمقراطية الأخرى من أحزاب ومؤسسات المجتمع المدني التي تحتاج هي نفسها إلى الكثير من التأهيل الذاتي لبناء قدرتها على نشر الأضواء الكاشفة ومن ثم التأثير من منطلق مصداقيتها أمام جمهورها وقدرتها على الإقناع وتوفير البدائل.