تجميل وجه «شارون» بماكياج «بيريز» وهل يُصلح العطارُ ما أفسد الدهرُ؟

TT

لقد كان أكثر من سبب وراء مشاركة حزب العمل الإسرائيلي في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة أرييل شارون. وكانت الوصولية والانتهازية في طليعة الأسباب. وهما مرضان يعشِّشان في فكر ساسة العالم المتخلف بالأخص. إذ عندما يرضَع بعضُهم من ثدي الحكم لا يسلو عن رضاعه ولا يطيق فِطامه ويحرص على أن يظل يرضع إلى أن يموت.

ومستوزرو حزب العمل من هذا النوع خصوصا منهم السيفارديين المنتمين إلى عالم التخلف.

ومن بين الأسباب التي دفعت أعضاء من حزب العمل إلى الانبطاح على أقدام خصمهم القديم ذي السوابق الحافلة بالجرائم والتسابقِ للعمل في وزارته ظروف الهزيمة التي عاشها زعيم هذا الحزب (ايهود باراك) وقيادته في ظل عجزهم عن تحقيق السلام الذي وعدوا به شعبهم، وأيضا عجزهم عن مواجهة شارون في انتخابات رئيس الحكومة، حيث اندحر «ايهود باراك» وانتصر عليه شارون انتصارا ماحقا. من أجل هذه الأسباب وغيرها رضوا بأن يمنحهم شارون مقاعد محدودة العدد. وليحفظ «شارون» ماء وجههم أعطى حقيبة الخارجية لزعيم الوصوليين شمعون بيريز، وحقيبة الدفاع التي كان يطلبها لنفسه الوزير الآخر «بنيامين آليعازار» الذي لا يقل عن نظيره العمالي وزميله وصولية وانتهازية.

ودخل وزراء حزب العمل الحكومة الشارونية ليعملوا مع حلف الحاخامات والعسكر المسمى «حكومة الوحدة الوطنية» على أساس برنامج «شارون» الذي يتعارض ويتناقض مع برنامج حزبهم المعروف بنعت الليبرالي.

دخلوا الحلف ينتابهم هاجس اعطاء الدليل من تصرفاتهم ومواقفهم على أنهم انخرطوا بكل صدق في المنهج الشاروني عاملين على أن لا يصدر عنهم ما يُشْتَمُّ منه رائحة التشبث ببرنامج حزبهم الذي وضعوه على الرف وانخرطوا بدلا عنه في توجهات أقصى اليمين من أخمص القدم حتى النُّخاع.

شنوا حربا على الانتفاضة وزكَّوا وهلَّلوا لميعاد المائة يوم الذي حدده شارون لقمعها وإبادة شعب فلسطين عقابا عليها. وكان «بيريز» وسط العسكر والحاخامات يعمل بلباس مدني وبدون طاقية دينية لكنه كان يخوض فيما كانوا يخوضون فيه كما لو كان أكثرهم اقتناعا بمنهج «شارون» وأسلوبه في الحكم. ونسي أنه إلى حد قريب أنه كان يحاول تعبئة الناخبين حول هاجس الخوف من برنامج «شارون» الذي كان يقول عنه إنه سيحوِّل المنطقة إلى موقع حرب شاملة يخشى من عواقبها على شعب إسرائيل نفسِه.

وبين عشية وضحاها تبين أن ليس بإسرائيل صقور أو حمائم، بل انه ليس بين قنافذها أملس، بمن فيهم «بيريز» الذي كان يراهن على أن يُذِلّ شريكه السابق في عملية السلام الرئيس عرفات ويحمله على الركوع أمام «شارون» وعصابته التي أصبح «بيريز» عضوا بارزا في «مافيتها».

رضي الوزير «بيريز» بحقيبة الخارجية طامعا في أن تدق ساعة أجله وهو وزير، بعدما راهن على أن يكون رئيس دولة وخاب، وأن يكون رئيس الحكومة ولم يجد له حتى من حزبه ناصرا أو معينا.

وربما كان «بيريز» أشد من عانى بين زملائه من آلام إخفاق رهانات شارون وتحطُّم قَصْر أحلامه، إذ الانتفاضة لا تزيدها الأيام إلا توقدا، وشعب فلسطين يوجه ضرباته المحكمة إلى شعب إسرائيل، ونساء إسرائيل أصبحن يبكين أزواجهن وأبناءهن كما كانت تفعل منذ أزيد من قرنين ثُكالى وأَيَائمُ فلسطين، والهجمات الإسرائىلية والاغتيالات الممنهجة لزهرات فلسطين أمست فاقدة المفعول.

وكل برنامج شارون انهار كما ينهار قصر من ورق... ولئن كان الثمن غاليا عند الفلسطينيين فإن ما ألحقه شارون بشعبه كان أغلى وأثمن ما دام شعب فلسطين استحب الموت بالعز على حياة الاحتلال والذل، وما دام شعب إسرائيل يحرص على الحياة وما يزال يغشى المراقص والملاهي والمطاعم الفخمة إلى أن تزلزل الأرض من حوله زلزالها.

أما في الخارج فالمجتمع الدولي مجمع على إدانة تصرفات إسرائيل، يصرخ بذلك بعضه، ويجهر به بعضه الآخر، ويتجاوز بالإعلان عنه البعض الباقي حد الهمس الخافت، بل تجهر به حتى الولايات المتحدة وإن كانت تمضي في الطريق على استحياء، وتتناقض أحيانا مع نفسها بأسلوب مكشوف.

ووسط هذا الجو الموبوء الذي تعيشه إسرائيل لأول مرة منذ نشأتها يتراجع الاقتصاد الإسرائيلي، وتتفشى البطالة، ويتصاعد التضخم المالي، ويفر المستوطنون بأرواحهم إلى أرض الله الواسعة طلبا للسلامة، وتغلق الفنادق أبوابها لأن السياح يتابعون خارج إسرائيل ما يجري في أرض فلسطين وخاصة فوق تراب إسرائيل الذي لم يعد آمنا. وهم يخافون على أنفسهم أن تصيبهم مصيبة الموت إذا ما غامروا بالسياحة في ظل التهديد والأخطار سواء منها الواقعة فعلا أو المحتملة التي كل شيء يرشحها للتصاعد.

أمام هذه الوضعية التي قذف في حمأتها «شارون» شعبه أخذ العجوز «بيريز» يعرض على سيده خدماته وتسويق خبرته الدبلوماسية لمحاولة إنقاذه ويطلب إليه أن يمنح له هامش مناورة ولو محدودا للتصرف كوزير حقيقي للخارجية، فأذن له في النهاية مضطرا ـ ولم يكن له خيار ـ بأن يرحل إلى أوروبا ليبشرها بأن «شارون» ليس ضد السلام، وأنه يمكن للمجتمع الدولي أن يثق في إرادته وحسن نيته. وحين عاد من أوروبا خاوي الوفاض ـ لأن صوته لم يكن مسموعا ـ اعتقد «شارون» أن إخفاق وزيره تم بسبب عجزه. فانتدب نفسه ليكون الشاهد على نفسه دون أن يلجأ للمحامي الفاشل. وظن نفسه أفصح لسانا وأقوى بيانا من وزيره، فرجع أيضا من رحلته وهو يعض أصابع الندم مقتنعا بأن خطابه السياسي لا يخترق الآذان وأنه غير قابل للتسويق والتصدير.

ومرة أخرى أدرك الوزير «بيريز» أنه أخطأ عندما اختار الانخراط في منهج شارون وأدرك بحاسته السياسية أن السفينة تغرق، وأن مَلاّحها يقذف بها عبر الأمواج المتلاطمة وستتكسر عليها السفينة لا محالة، فعرض عليه أن يأذن له بتجميل صورته بوضع ماكياجه الدبلوماسي على وجهه، حتى ىظهر «شارون» في شكل صورة لا تتقزَّز منها الأبصار، ولا تقشعر لفظاعتها الجلود.

هكذا استأذن شارون في أن يسمح له بالقيام بمراوغة ذكية، يفتح بها باب الحوار الموصد مع الفلسطينيين، وقيل في البداية إن سيده سمح له بذلك بشروط، هي أن لا تتجاوز المحادثات شكل «دردشة» بينه وبين بعض الفلسطينيين الذين يختارهم من بين المعتدلين، وأن لا يكون الرئيس عرفات من بين «المدردِشين»، وأن تقتصر «الدردشة» على الحديث عن إيقاف النار وإنهاء الانتفاضة، وأن يكون ذلك مبتدأ الحديث وخبره. لكن العطَّار «بيريز» وجد أن مساحيقه لا تكفي لتجميل صورة «شارون»، وضغط عليه ليكون الرئيس عرفات ضمن المخاطَبين الفلسطينيين عند الاقتضاء. لكن مهما تكن التجميلات التي قد يعلن عنها «بيريز» فسيبقى هو ذلك العطَّار الذي قال عنه الشاعر القديم:

«وهل يصلح العطَّار ما أفسد الدهر؟».