الريال الرنان في «كناسة الدكان»!

TT

عمل الأديب يحيى حقي في قنصلية مصر بمدينة جدة خلال العامين 1929 و1930 لكن ما رصده عن حال المدينة في كتاباته يعد متواضعاً مقارنة بما كتبه بعض مواطنيه أمثال إبراهيم رفعت باشا، ومحمد صادق باشا، أو غيرهما من الغربيين أمثال لويس بوركهارت، وشارل ديديه، فيحيى حقي اكتفى من المدينة بالنظر إلى النصف الفارغ من كأسها، وغلبت نزعة المبدع لديه على الباحث الموثق، لذا يبقى ما سجله عن المدينة مجرد خواطر عابرة وسريعة، احتل عبد الله فيلبي الكثير من سطورها، لكن لفت نظري حديثه في كتابه «كناسة الدكان» عن الريال الغريب العجيب، ريال ماري تريزا الفضة، الذي ينسب إلى ماري تريزا إمبراطورة النمسا في القرن الثامن عشر، وكان ريالها متداولا على نطاق واسع في مدينة جدة وسائر الجزيرة العربية، وتذهب كميات كبيرة منه إلى اليمن نتيجة رواج تجارة البن بين اليمن وفرنسا بصورة خاصة، وهو ما يبرر إطلاق اليمنيين على ذلك الريال اسم «الريال الفرنسي».

وهذا الريال يعتبر أغرب عملة في العالم على وجه الإطلاق، فهو يحمل تاريخ عام 1780، وهو العملة الوحيدة التي لم يتغير تاريخ سكها، رغم أن العديد من طبعات ذلك الريال صدرت في وقت لاحق، وفي أماكن متعددة بعد موت الإمبراطورة التي حمل الريال اسمها وصورتها، ويصف يحيى حقي ذلك الريال الغريب العجيب، الذي تعرف عليه إبان عمله في جدة في نهاية عقد الثلاثينات من القرن الماضي فيقول: «إنه ريال متميز، على وزن مبعجر، ضخم كأنه الرحى، وهو النقد المفضل حينئذ لدى جميع سكان الجزيرة العربية، وهو ليس عملة رسمية تنفرد الحكومة بسكها، وتعاقب على تقليده، بل هو عملة حرة قيمتها هي قيمة الفضة التي تحتويها، فيستطيع أي صيرفي أن يسكها أينما شاء».

وكان لذلك الريال حتى عقد الستينات في دكاكين «الصيارفة» رنينه الخاص الذي يمكنك تمييزه عن رنين غيره من العملات الفضية نتيجة ثقله، وكان مألوفاً رؤية تلك الريالات الفضة داخل أكياس خاصة من القماش، ينقلها التجار على أكتافهم، أو على عربات تجرها الدواب، وهي لا تعلم بما تحمله على ظهورها.

لقد دفعني يحيى حقي إلى البحث عن ثروتي من تلك الريالات، وهي لا تتعدى الخمسة ريالات، ظللت محتفظاً بها منذ نحو أربعة عقود، أقلبها بين كفي كل بضعة أعوام، وأنا أسرح في تخيلات عجيبة تتصل برحلة تلك الريالات، وكم أكف لامستها، وخزائن استقبلتها، ومدن مرت بها، وصراعات كانت جزءاً من فتنتها، ونحو ذلك من التخيلات.

وصباحكم فضة.

[email protected]