الصحافة القديمة: جنازة أم ولادة؟

TT

الحديث عن أزمة الصحافة العربية المالية عاطفي أكثر من كونه علميا، وهو ما لاحظته في الندوات التي شاركت فيها. هناك إعلام لن يستطيع البقاء رغم أنه متميز ونوعي ومؤثر، السبب فقط أنه لم يبن على أسس اقتصادية صحيحة، ولا علاقة لموته بطوفان الإعلام الجديد. ومع أن الصحافيين قاوموا لعقود طويلة مفهوم الإعلام التجاري، وهم محقون في محاولاتهم، إلا أن ساعة الحقيقة آتية لمن استطاع الصمود.

الذي أراه أن مستقبل الإعلام العربي أفضل بكثير مما كان عليه في الماضي، رغم ثقل الأغلال السياسية والمجتمعية، ورغم ارتفاع التكاليف. السبب أن الإعلام العربي ولد مريضا وعاش قزما، ولم يأت زمنه بعد ليصبح قوة اقتصادية وسياسية كبيرة. ربما حان وقته الآن بسبب التطور التقني الذي حل عقدته الأولى وهي التراخيص، حيث لم يكن مسموحا لأحد أن يصدر وسيلته الإعلامية إلا للقلة المقبولة. أيضا، التطور التقني سيمكن الوسائل الإعلامية خدمة رسالتها بتكاليف أقل، وربما بمداخيل أفضل.

أما بالنسبة للإعلام التقليدي فإن محنته اليوم تكمن في عجزه عن التأقلم والاستفادة من المناخ التقني الحديث الذي يستطيع أن يمنحه مساحة شاسعة وتواصلا وتأثيرا أعظم. المحترفون في الصحافة يملكون معرفة أعمق بسوق القراءة وإدارة الإعلام بشكل أفضل من الجيش الهائل الذي جاء على ظهر الإنترنت وشقيقاتها. والسوق، أعني سوق القراءة، أثبتت مع التوسع الهائل أنها قادرة على استيعاب كل الجديد مع القديم.

مشكلتنا في الإعلام التقليدي عقلية، في عجزنا عن التفكير خارج الصندوق الذي اعتدنا على العمل فيه، التفكير بحرية أصبحت ميزة الجيل الإلكتروني الجديد الذي يدخل الساحة متحررا من كل العقد القديمة. لهذا فإن ندب الصحافة القديمة، والاستعداد لدفنها، بمطابعها وأحبارها ومحطاتها، فيه عجز عن فهم أن دفن الآلات هو في الوقت نفسه احتفالية ولادة جديدة، أكثر من كونها جنازة. عمليا نحن في حالة انتقال من زمن الحمام الزاجل إلى عصر البريد الإلكتروني، ومن ركوب الجمال والبغال إلى زمن السيارات، الوسيلة ليست مهمة بل النتيجة. فالإعلام الجديد لن يؤثر على صناع المضمون الصحفي، من مبدعين كتاب وصحافيين وشعراء ورسامين.

عمليا، نحن نشهد آخر جيل يقرأ الصحف الورقية، الذي يبدو أمرا مفزعا إلا أنه ليس بهذا السوء لمن يستطيع التحول ومجاراة الواقع الجديد، السبب أن العدد والمساحة يتضاعفان، إن ربطنا بغالنا في حظائرها وامتطينا الوسائل الجديدة.

الخطأ الذي يقع فيه المحللون الندابون مقارنتهم ما يحدث للإعلام التقليدي في العالم العربي بمثيله في الغرب. العربي أصغر استثمارا وسوقا وقراء، أما في الغرب فتوجد إمبراطوريات ضخمة، بمبيعات هائلة وقراء بالملايين. هناك انهيارات أما هنا نرى إغلاق محلات صغيرة. الجانب الآخر أن الإنترنت أنقذ الإعلام ولم يقتله لأنه وسع بشكل خيالي سوق القراءة، ولاحقا سيضاعف سوق المشاهدة. المقارنة خاطئة لأن معظم الصحافة العربية تقوم على أسس غير اقتصادية، على الدعم الحكومي مثلا، والقليل منها تقف على قدميها مستقلة بشكل مالي وتحقق أرباحا جيدة في نهاية العام، وحتى هذه ليست من الضخامة بدرجة تعجز عن التأقلم مع الوضع الجديد إن تداركت نفسها مبكرا واستطاعت السباحة في الفيضان المقبل.

تبقى المشكلة الأصلية، وهي أن الأخ الأكبر يسابقنا على التقنية الحديثة يستخدمها للإمساك بمقود التقنية الحديثة بعد أن كان يمسك التقنية القديمة، وهذه قصة أخرى.

[email protected]