من يجرؤ على اتخاذ موقف عادل متزن؟

TT

لا أعلم ما إذا تم التخطيط مسبقا لإطلاق سراح الأسيرات الفلسطينيات بالتزامن مع اليوم المحدد للتصويت في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على تقرير القاضي ريتشارد غولدستون بشأن الجرائم التي ارتكبها حكام إسرائيل في حربهم الوحشية على غزة، أم أن ذلك التزامن كان محض مصادفة. إذ كان يمكن لأجهزة القمع الإسرائيلية أن تطلق سراح أسيرات أكملن تقريبا أحكاما مجحفة ولا قانونية أصلا، فقط للتغطية على خبر التقرير، الذي هو جلّ ما تخشاه لأنه يفضح للعالم «المتحضر» حقائق الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين طالما وجد الكثيرون من أصدقائها من الصعب تصديقها.

ليست سرا المعلومات عن معاناة الأسرى والأسيرات الفلسطينيات في السجون الإسرائيلية الرهيبة التي لا يضاهيها في وحشية التعذيب سوى سجن أبو غريب الأميركي، ومعروفة جدا تفاصيل تعامل جنود الاحتلال مع الأسرى والأسيرات التي تفوق التصور البشري للوحشية التي يمكن أن تصلها العنصرية الصهيونية. أما أسباب اعتقالهن فإنها تناقض كل الشرائع والقوانين الدولية، ومع ذلك فالقنوات العربية التي تذكر شاليط بمناسبة وبدونها تتذكرهن فقط حين يتم الإفراج عن بعضهن، بينما يجب أن تكون قضية الأسرى هي الشغل الشاغل لمثل هذه القنوات، مثلها مثل المهتمين بحقوق الإنسان. ولكن كيف يطمئن الإنسان إلى نتائج عمله إذا كان تقرير غولدستون والمعركة التي خاضها على مدى الأشهر الماضية قد انتهت، نتيجة الضغوط الإسرائيلية، إلى ترحيل التقرير للعام القادم، مما يعني عمليا إعفاء المتورطين بجرائم الحرب ضد المدنيين في غزة من مواجهة العدالة.

في الوقت الذي كان الطفل يوسف الزق، الذي ولد في الأسر الإسرائيلي والقيود في معصميه ومعصمي والدته، هو المرشح كي يكون على لسان كل إنسان في العالم كأصغر أسير في العالم، فإن جلعاد شاليط هو نجم النشاطات السياسية والإعلامية والأمنية للأنظمة والقنوات العربية، مع أنه الجندي في الجيش الإسرائيلي الذي يمارس كل هذه الجرائم ضد المدنيين الفلسطينيين، والذي قدم إلى فلسطين مع المستوطنين ليقتل أهلها ويستولي على أرضهم، وهو جندي أُسر خلال المعركة وليس كالأم الحامل فاطمة الزق التي اختطفها الجنود الإسرائيليون من بيتها، وقد يكون شاليط أحدهم، وقد يكون هو أحد الجنود الذين يتسلّون «باصطياد» الأطفال الفلسطينيين، وقد يكون شاليط أحد قتلة الطفل محمد الدرة، ومع ذلك هو الذي أصبح اسمه معروفا في كل أصقاع الأرض نتيجة الترويج الصهيوني الممنهج من قبل اللوبيات اليهودية وغياب الإعلام العربي التام عن قضية الأسرى الفلسطينيين.

عدم امتلاك الفلسطينيين القدرة والتمويل على التحرك، بالإضافة إلى غياب الأساليب الفعالة العربية والإسلامية والعالمية لدعمهم، سواء بالفعل أو القول والكلمة، قد يكون السبب، وأيضا الاختلاف الشديد بين المنهجية التي يتبعها الأعداء في تصوير جرائمهم وتبريرها في كل وسائل الإعلام والمحافل الدولية والصمت المطبق الذي يلف أصحاب الحقوق وعدم نفاذهم إلى الوسائل الإعلامية المتاحة، إضافة إلى حملات الإرهاب الفكري، والتشنيع الإعلامي، والاغتيال السياسي التي تشنها اللوبيات الصهيونية ضد كل من يحاول إلقاء الضوء على الجرائم الإسرائيلية.

فإذا كان القاضي المرموق، ريتشارد غولدستون، الذي هو يهودي ومعروف بتأييده لإسرائيل التي قدم لها خدمات جليلة، قد تعرض لمثل هذه الحملة المشينة فقط لأن ضميره وضمائر أعضاء لجنة التحقيق لم تستطع أن تغطي على كل حجم الإجرام بحق أناس مدنيين أبرياء، يمكن لنا أن نتخيل أنواع التهم التي كانت ستكال له لو لم يكن يهوديا مؤيدا لإسرائيل، ولو كان انتماؤه مسيحيا أو إسلاميا يسمح بتوجيه التهمة المعتادة له «العداء للسامية». وإذا كان الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر (المعروف بدعمه العقائدي لإسرائيل) قد تعرض، ولا يزال، لمقالات مسمومة (انظر على سبيل المثال: «سعر جيمي كارتر» بقلم الحاخام شمولي بونيش في جريدة «الجيروزاليم بوست» 30 أيلول 2009). والرئيس كارتر هو الذي أخرج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي بمعاهدة كامب ديفيد، وبذلك قدم خدمة استراتيجية لإسرائيل ودعم قوتها التي انصبّت بكاملها على إنزال المزيد من الاضطهاد بالفلسطينيين. ومثال آخر هو ما يكتبه باستمرار عن الرئيس كارتر أيضا ألين ديرشويتز، أستاذ القانون في جامعة هارفرد، وهو يهودي معروف بتأييده لاستخدام التعذيب ضد الأسرى في السجون الإسرائيلية، وذلك منذ أن أصدر الرئيس كارتر كتابه «فلسطين.. السلام وليس التمييز العنصري»، وحتى تاريخه، من تشنيع فظيع، فماذا يتوقع الآخرون الذين لا يحظون بهذا الانتماء اليهودي أو التاريخ المؤيد لإسرائيل والمكانة الدولية، كالرئيس كارتر، ويرغبون في اتخاذ موقف متوازن للكشف عن حقائق الاضطهاد الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين؟

لقد تعرضت شخصيات دولية عديدة، وعلى مدى سنوات، لكل أنواع المكائد والاتهامات من قبل أجهزة الدعاية والضغط الإسرائيلية، كما أحيلت شخصيات سياسية إلى التقاعد قبل أوانها بسبب ضغوط اللوبيات اليهودية لأنها رفضت إسدال ستار أسود على الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين الفلسطينيين في جنين مثلا وفي بيت حانون والخليل والقدس وغزة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر ماري روبنسون، وكارين أبو زيد، وآن ليند، التي تم اغتيالها في ظروف غامضة.

ولكن المفاجئ اليوم، هو أن هذا التوجه بإسكات المحتجين على الخطأ أو الفساد أو التزوير، قد أصبح سياسة عالمية في الكثير من الأحيان، بحيث تتم التضحية بشخصية مثل المبعوث الدولي في أفغانستان، بيتر غولبرث، فقط لأنه اتخذ موقفا ضد التزوير في الانتخابات الأفغانية وأشار برسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة إلى الحقائق والوقائع التي تثبت وجود تجاوزات من المفترض أن يخبروا عنها ويتخذوا موقفا بشأنها. المهم في الأمر هنا أن إقالة شخصيات بهذا المستوى للتغطية على الفساد السياسي أو جرائم حرب أو تعذيب، يؤكد هنا، وفي كل مكان، تحذيرا قويا ممن يخالف التوجه العام للأنظمة الحاكمة، حتى في أعرق الديمقراطيات الغربية، ويعيد إلى الأذهان الأساليب المظلمة في حقبة ستالين الرهيبة، حين كان يتم إسكات المعارضين بأساليب مشابهة.

إن هذا التوجه اليوم يبرهن أن المصالح الإمبريالية والاستيطانية تفرز أدواتها الإعلامية والسياسية والمخابراتية التي لا تؤمن بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لذلك فإنها تبث مشاعر الخوف من خلال حملات ابتزاز وتشهير وتشنيع بأسماء كبيرة واغتيال سياسي، وحتى جسدي، لشخصيات مرموقة تحاول كشف النقاب عما يجري من تجاوزات وجرائم كي لا يتجرأ أحد بعدها على اتخاذ موقف مماثل. الحملة السياسية ضد الصحفي السويدي دونالد بوستروم، الذي كشف قيام الجيش الإسرائيلي بقتل الشباب الفلسطيني من أجل سرقة أعضائهم والإتجار بها، أتت في هذا السياق حتى تم إسكات كل وسائل الإعلام عن الجريمة.

هل تساهم إسرائيل اليوم في خلق حالة من الهلع العالمي كي لا يتجرأ أحد على تسليط الضوء على ما ترتكبه من جرائم ضد الإنسانية؟

ولكن تقرير القاضي غولدستون سيظل موجودا ومتاحا كما هو حال قرار المحكمة الدولية بشأن جدار الفصل العنصري الذي تبنيه إسرائيل، وإن لم يأخذ منحى التنفيذ. وكلها تضيف إلى سجلات حكام إسرائيل المزيد من جرائم الإبادة والمجازر والاستيطان والقمع والاغتيال والابتزاز والتعذيب المتراكمة منذ أكثر من سبعين عاما عندما اغتالوا الوسيط الدولي، الكونت برنادوت، وارتكبوا مجازر الإبادة ضد الفلاحين الفلسطينيين في دير ياسين، وكفر قاسم، وسجلهم الأسود طويل.

صحيح أن جهودا هائلة تبذل كي لا تنكشف الجرائم التي تقترفها إسرائيل، ولكن من كان يظن منذ بضع سنوات أن مجموعة بريطانية ستطالب باعتقال وزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك، لارتكابه جرائم بحق المدنيين الفلسطينيين؟! إن ما قام به القاضي غولدستون وزملاؤه يعتبر خطوة متقدمة عما قام به القس ديزموند توتو ومجموعة الحكماء لفضح المتورطين في ارتكاب مجزرة بيت حانون، ومهما اشتدت الضغوط لطمس حقائق مثل هذه المجازر التي يذهب ضحيتها المدنيون العزل من الأطفال والنساء، فإنها ستجد طريقها إلى المحاسبة.

لهذا فإن قول كلمة الحق اليوم واتخاذ موقف جريء وغير مهادن مما يجري، مهما كان حجم الترهيب والابتزاز، أصبح ضرورة أخلاقية إنسانية كي نضمن عدم العودة إلى عصر ستاليني جديد عانت منه الإنسانية ما عانت حين استحكم الخوف بقلوب أبنائها.