لو كان لبنان.. ولاية ألمانية

TT

«احتمال أن يبقى لبنان بلا حكومة أمر وارد»

(النائب ميشال عون)

يوم الأحد قبل الماضي (27 أيلول/ سبتمبر) كنت أحد من دعوا إلى منزل سفير ألمانيا في لندن لحضور حفل خاص بالانتخابات الألمانية العامة. وكان ضمن برنامج الحفل مشاركة مَن يحضرون قبل موعد البدء بفرز الأصوات، وإعلان نتائج استطلاع المقترعين بعد مغادرتهم أقلام الاقتراع، في مسابقة لتخمين حصص الأحزاب الرئيسة من نسب التصويت، ومن ثم هوية القوة الفائزة.

ووسط المأكولات الشهية والمشروبات المنعشة والدردشات الممتعة بدأ معظم المدعوين، إلى جانب جهاز السفارة متابعة النتائج لدى إعلان حصص الأحزاب. ولم يَطل الوقت حتى تأكّدت صحة آخر التقديرات التي اتجهت إلى تشكيل حكومة يمين ـ وسط تحل محل الائتلاف الكبير بين اليمين الديمقراطي المسيحي مع الديمقراطيين الاجتماعيين (أو الاشتراكيين). أما المفاجأة الأهم فتمثّلت بتحقيق حزب الديمقراطيين الأحرار الوسَطي ـ الذي كان سيعتمد عليه الديمقراطيون المسيحيون للتخلص من «زواج الاضطرار» مع خصومهم ـ نتائج كبيرة فاقت حتى توقعات غلاة المتفائلين. وبفضل أداء هذا الحزب حُسمت فعليًا معركة المقاعد لصالح تحالف اليمين والوسط في وجه قوى اليسار المعتدل والمتشدد والبيئي.

ولكن رغم هذا التحوّل السياسي المهم، استقبل الحضور المتوزّع بين قاعات المنزل الكبير وحديقته النتائج المتلاحقة بكل هدوء وكأن شيئًا لم يكن. فبالكاد يستطيع ضيف طارئ مثلي أن يلحظ على أي من الموجودين أي مؤشر لولائه السياسي. وعلى الموائد وفي أرجاء الحديقة تعامل الكل مع النتائج بهدوء وروح رياضية، متبادلين قفشة من هنا وتعليقًا من هناك.

هذا المشهد قد يبدو سورياليًا لمواطني بعض دول عالمنا العربي التي تتوهم أنها تمارس الديمقراطية، أو تلك التي تحاضر للآخرين حول أصول ممارسة الحكم، لكنه حقيقي.

الحقيقة أن ألمانيا في حساب الدول.. كيان حديث العهد نسبيًا ولو أنه تشكّل من مجموعة كيانات عريقة ذاب معظمها في الكيان الحالي بعدما بنى هويته المميزة عبر القرون.. بالتراكم.

وفي حساب الهوية الدينية.. فإنه البلد الذي شهد أقوى الانتفاضات البروتستانتية على الكنيسة الكاثوليكية لكن الجذور الحزبية لليمين الحاكم فيه كاثوليكية، وهو أيضًا البلد الذي جرّب متطرفوه «الحل النهائي» مع اليهود، والذي يحاول التأقلم اليوم مع ملايين من المهاجرين المسلمين.

وفي حساب الوزن السياسي القاري والعالمي.. أخطأت ألمانيا القراءة مرتين خلال القرن العشرين فخسرت حربين عالميتين، وتعرّضت لإذلال الاحتلال والتقسيم والتجريد من السلاح، لكن الشعب الألماني الحيّ، نجح بفضل بصيرته وعزيمته، ليس فقط في صنع «معجزة» اقتصادية جعلت من ألمانيا أقوى قوة اقتصادية في أوروبا، بل في الانطلاق، أيضًا، من «واقع التجزئة» والتقسيم ليقود مع بعض الجيران الذين أسهموا بتجزئة بلده وتقسيمها أهم مسيرة لإعادة توحيد أوروبا، وبلوَر أحد أرقى أشكال اللا مركزية السياسية والإدارية والتنموية في العالم.

عظمة ألمانيا أنها أمة تتعلم من أخطائها، وتعرف كيف تتصارح، وبالتالي، تتصالح مع ذاتها لكي تنطلق نحو المستقبل.

اليمين والوسط اللذان فازا بانتخابات أيلول الفائت في ألمانيا لا يتمتعان بالضرورة بالأكثرية الشعبية في نظام برلماني فيدرالي يضم مجلس ولايات (البوندسرات) ـ يوازي مجلس الشيوخ ـ ومجلس نواب (البوندستاغ) تُملأ مقاعده بطريقتي التمثيل النسبي والتمثيل المباشر. فلليسار حضورٌ ضخم ولعله حصل من الأصوات الشعبية على نسبة تكاد توازي ما حصل عليه تحالف اليمين والوسط الفائز (نحو 48% من الأصوات)، بل كان صاحب الأكثرية الشعبية في عدد كبير من الولايات.

ثم أن أحجام الولايات الألمانية تتراوح بين ولايات كبيرة بحجم دول، كولاية الراين الشمالي ووستفاليا وولاية بافاريا، وبين ثلاث مدن ولايات هي برلين وهامبورغ وبريمن ليس لديها بلديات بل حكومات، مثلها مثل أي ولاية أخرى.

وعندما تحقّق حلم كثيرين بإعادة توحيد تراب البلاد، دفع مواطنو الولايات الغربية ثمنًا ماديًا واجتماعيًا باهظًا لإنهاض ولايات الشرق (الشيوعي سابقًا) من واقعها الاقتصادي المتردي، ولم يأت الاعتراض الشعبي في ولايات الغرب على الكلفة العالية عبر الاعتصامات والإضرابات بل في صناديق الاقتراع.. حيث تراجعت شعبية الديمقراطيين المسيحيين الذين عجّلوا في إنجاز إعادة التوحيد، وفاز الاشتراكي غيرهارد شرودر بالمستشارية.

بيت القصيد ليس مقارنة ألمانيا ببلد كلبنان.

ولكن بما أن الشيء بالشيء يُذكر، وبما أن اللبنانيين استمرأوا تغطية السموات بالقبوات، والتمويه على الحقائق والكذب على أنفسهم قبل الكذب على شركائهم في الوطن.. ذهبت في هذه الرحلة السياسية القصيرة مع ألمانيا.. تاريخًا وواقعًا.

لقد تعلّمت ألمانيا جوهر التعايش بعدما استخرجته من عمق التنازع والعنجهية الجامحة والطموحات الشخصية والفئوية. وتعلّمت كيف تنظّم الخلاف السياسي، و«تقونن» الإنماء المتوازن، وتعترف بالاختلاف لتصل منه إلى التوافق.

أما لبنان، الذي يضيع مواطنوه إزاء سؤالهم عن أي وطن يريدون، فلا يزال محكومًا بـ«عبادة الفرد» وهاجس «عدوّ عدوّي.. صديقي» ومرتاحًا لتكرار الرهانات الخاطئة ـ التي هي غالبًا أكبر منه وفوق قدرته على التحكم بها ـ مهما دفع من أثمان.

وبعد أربعة أشهر من انتخابات جاءت نتيجتها حاسمة ما زالت أدوات اللعبة الإقليمية «تفلسف» العُقَد التي تعترض سبيل تشكيل حكومة في لبنان الذي هو بحجم ولاية ألمانية صغيرة. وما زالت «الولايات» الطائفية اللبنانية تحاول ممارسة التمدّد على أنقاض «الولايات» الأخرى، تارة باسم المقاومة، وطورًا باسم «الممانعة» والوحدة القومية، مستقويةً بسلاحها الخاص وبالهجمات الإقليمية الموسمية.