الانقلاب السوري على عبد الناصر

TT

لا أكتب عن تاريخ العرب الحديث، لأنكأ الجراح، أو لأصفي حسابات. أكتب لأقدم التاريخ إلى الجيل العربي الجديد. أشعر أنه جيل بلا ذاكرة. جيل لا يعرف هذا التاريخ. معظم ما كتب عنه كان ضد الحقيقة. كان لمصلحة سلطة الحاضر.

أكتب عن التاريخ السياسي الحديث، كلما سمحت لي أحداث الحاضر المفجعة. كان في ودّي أن أكتب عنه كتبا، أو على الأقل، أجمع ما كتبت عن تاريخ سورية. لبنان. العراق. مصر. الأردن. لكن الكتاب لا يُطعم خبزا. الكتاب السياسي يصادره 22 رقيبا. إن نجا الكتاب من هؤلاء جميعا، فهو لا يثير اهتمام القارئ. لأن كتابة المذكرات فن لا يجيده الساسة الذين صنعوا التاريخ.

سبتمبر/ أيلول يثير في نفسي حزنا، كحزن فيروز وهى تبكي شتاء أيلول. في سبتمبر (1966) حدث الانقلاب السوري على عبد الناصر. سبتمبر (1962) الانقلاب الجمهوري في اليمن بدعم من عبد الناصر. سبتمبر (1970) حاول عبد الناصر فك الاشتباك المفجع بين الفلسطينيين والأردنيين. في سبتمبر، أيضا مات عبد الناصر. لا أكتب لأرثي. إنما لأقول للجيل الجديد إن أخطاء دمرت وحدة كان عليها أن تستهل عهدا جديدا. وحد صلاح الدين يوما مصر وسورية عسكريا وسياسيا، فحرر القدس التي كانت عربية. لم يبقَ منها للعرب اليوم سوى 12.5 بالمائة من أرضها.

عن أيلول السوري، رويت في الحلقة الأولى ملابسات الانقلاب. اليوم أستكمل المشهد بانطباعات سريعة عن أبطال المسرح. أبدأ بعبد الناصر. فرض «البطل» وحدة بلا حرية. عذره أن عصره كان عصر التحرر. لا عصر الحرية. كان عبد الناصر يريد اتحادا. لا وحدة. الضباط السوريون فرضوا الوحدة على الساسة. ففرض ناصر إلغاء الأحزاب السورية. فلم يكن يطيق إعادة الأحزاب المصرية، وفى مقدمتها الإخوان والوفد.

كنا نظن أن لا وحدة قومية في وجود أنظمة ملكية. كنا وكان عبد الناصر مخطئين. استنزف نفسه في اليمن الجمهوري، ليهدد النظام الخليجي. ها هي أوروبا تصنع التاريخ. توحّد الجمهوريات والملكيات. بات الخليجيون والهاشميون يكرهون عبد الناصر. لكن أشك في أن قادة الانقلاب كانوا مُرْتَهَنين لهم تماما. دليلي أنهم ذهبوا، بعد شهور قليلة، إلى عبد الناصر باكين مستغفرين. يطالبون باستعادة وحدة لم يعد يريدها. طردوا حيدر الكزبري أول الانقلابيين. مات الكزبري (1996)، من دون أن يدفع عن نفسه تهمة الصلة بالأردن.

ثَأَرَ الأردنيون من جمهورية عبد الناصر، إذا ما أَغْوَوْا حقا الكزبري. قتلت المخابرات المصرية رئيسًا للوزراء (هزاع المجالي). طرد الملك حسين رئيس أركانه البريطاني الجنرال غلوب. حاول استمالة ناصر بتعيين حكومة يسارية برئاسة سليمان النابلسي. فوجئ بعدة محاولات انقلابية، أبرزها بقيادة رئيس الأركان على أبو نوار. قابلت أبا نوار مرتين. مرة في دمشق. ومرة في باريس، حيث كان يُحْتَضَر مُعانيًا من السرطان. شعرت بأنه كان نادما. ظل محبا لناصر. لكن شاكرا للحسين الذي صفح.

كان حظي من المسؤولين والساسة قليلا. لكني مَدين في حياتي لرجلين مختلفين تماما. للأمير سلمان بن عبد العزيز. ولعبد الحميد السراج. إن بقي في العمر زيت في السراج، سأرد دَيْنا معنويا لهما في عنقي. أكتفي اليوم بالقول إن السراج (اللاجئ إلي مصر) لم يدبر انقلابا على ناصر، اتهمته الشائعات بالتخطيط له.

نعم، كان السراج رجلا مخابراتيا مذهلا. أحبط عدة انقلابات يمينية وأميركية في سورية الخمسينات. وجد السراج في الوحدة فَكًّا لاشتباك في جيش مزقته الآيديولوجيا. كان السراج على كفاءة إدارية كبيرة ونزيهة. لم يخترقه الفساد. إنما كان سخيا في الإنفاق على الأجهزة.

راهن السراج على عبد الناصر. لم يكن مؤهلا لدور الرجل (رقم واحد). كان أعداؤه ورجاله يعجبون لصبره على إساءات المشير عبد الحكيم عامر. رأيت السراج قبيل الانقلاب، محاصرا في مقر حزب الدولة (الاتحاد القومي). لم يكن حليقا. «الغرافة» محلولة. فقد قطع المشير عنه الماء والكهرباء. كان السراج وما زال يجيد الصمت في كبرياء. لم نكن نعرف أنه يعرف ملابسات الخلاف العميق بين ناصر وعامر المتحكم بالقوات المسلحة.

صعد ناصر بالسراج إلى أرفع المناصب. بيد أنه أخطأ في إقصائه عن الجيش. لو بقي السراج مديرا للمخابرات العسكرية لتغير التاريخ. لَمَا تمكن الضباط «الشوام» من الغدر بالوحدة. صمته يحجب عن التاريخ أسرارا مذهلة يعرفها. الرجل اليوم في السابعة بعد الثمانين.

عشت مع المشير عامر ثلاثة أيام. كنت الصحافي الوحيد في مؤتمر مغلق له مع قادة «الاتحاد القومي». تابعته ودرسته عن كثب وهو على المنصة وفى الكواليس. رجل على معرفة دقيقة بالتفاصيل. لكنه ليس على مستوى عبد الناصر في الذكاء وسحر الجاذبية الشعبية. لمست في عامر الطيبة المصرية المعهودة في ابن البلد، إلى حد السذاجة. هذا هو السبب في تغرير قادته العسكريين به. المصريون ورطوه في الهزيمة. «الشوام» خدعوه في الانقلاب.

كان عبد الكريم النحلاوي قائد الانقلاب مديرا لمكتبه (كاتم أسرار الجيش). كان يشكو لعامر، مبالغا في «سلبيات» الضباط المصريين، فيما كان يخطط لانقلابه. كان السوريون آنذاك يتقنون الحرفة الانقلابية. أخطأ عامر وناصر بالثقة بالشوام، أبناء الأسر التجارية والطبقة الوسطى التي تضررت بالاشتراكية.

كان جاسم علوان قوميا عربيا، مخلصا لعبد الناصر إخلاص السراج. كان شجاعا. لكن هذا الضابط «البدوي» لم يكن يملك ذكاء السراج. سخر منه «الشوام» ثم ضباط الريف البعثيون. ترك العقيد جاسم المشير ودمشق بلا حراسة، ليجري مناورات بلوائه المدرع، على بعد مائة كيلومتر من دمشق، فيما كان الانقلابيون يقتحمون بسهولة العاصمة الثانية للوحدة.

قاد جاسم علوان حركة ناصرية مسلحة ضد البعثيين الذين خطفوا انقلاب مارس/ آذار (1963) من شركائهم الضباط الناصريين والمستقلين. غرقت دمشق في حرب شوارع أياما.

سالت دماء كثيرة. فشلت الحركة المكشوفة سلفا. أُعدم ضباط وأنصار علوان بالعشرات بلا محاكمة. أما هو فقد أسر، وقدم إلى محكمة عسكرية. شهدت أنا محاكمته. كان جريئا. فقد حاكم هو قضاته. فلم يجرؤوا على إعدامه!

عرف ضباط الريف البعثيون كيف يسقطون نظام الضباط الشوام الأقل حرفة والأكثر جهلا بالسياسة. عرفوا أيضا كيف يحيِّدون الضباط الناصريين والمستقلين. كيف يقلبون الرئيس ناظم القدسي. كيف يطاردون عفلق والبيطار. عرفوا كيف يصلون إلى الحكم. عرف اللواء صلاح جديد كيف يخاصم العرب، ويحالف عبد الناصر! جَرَّةُ إلى حرب النكسة (1967) باستفزاز إسرائيل، من غير استعداد. لكن جديد لم يعرف كيف يحكم. حليفه ثم خصمه حافظ الأسد عرف وحده كيف يصل، وكيف يحكم ويورِّث الحكم نحو أربعين عاما، بإغراء الجزرة وهزِّ العصا.

ندم أكرم الحوراني، بعد فوات الأوان، على عسكرة العلويين. ندم من دون أن يعترف في مذكراته ولقاءاتي المتعددة معه، بخطئه. حاكمهم أمام قاض محسوب عليه. شهدت النقيب إبراهيم العلي يروي للمحكمة كيف قتل زميليه النقيبين نصوح نعال وكامل عرنوس، في مدرسة «الصاعقة». ثم شهدت محاكمة البعثيين للحورانيين.

لم يستطع الأسد التخلص من «البطل» إبراهيم العلي. فرزه بذكاء الحرفة قائدا لجيش «شعبي» لا وجود لجنوده. انصرف العلي في الفراغ للكتابة الروائية. نصّبه نقاد الأدب، في عصر بشار، دستويفسكي سورية! كان دستويفسكي، كإبراهيم العلي، مهزوزا نفسيا. لكنه لم يكن قاتلا.

وحده، زعيم حلب رشدي الكيخيا، كان سياسيا نبيلا. لم يكن ناصريا. لكن رفض إغراء الحكم والرئاسة. قال للشوام الانقلابيين: «اليد التي وَقَّعَتْ ميثاق الوحدة، يستحيل أن توقع ميثاق الانفصال». ارتكب الانقلابيون الخطأ التاريخي الذي يرتكبه زعماء الجنوب في اليمن اليوم. لا يعرفون أن النضال من أجل الحرية والديمقراطية، يجب أن يتم من داخل دولة الوحدة، وليس بالانفصال عنها، والإجهاز عليها.