صفحات من السخرية الفلسطينية

TT

إنني كاتب قليل القراءة والسبب هو أنني بطيء القراءة سريع الكتابة. فما يستغرق الآخرون في كتابته عن القضية الفلسطينية ثلاثة أشهر أنجزه أنا في ثلاث ساعات أو ثلاث دقائق، بل في ثلاث ثوان. أتناول القلم وأكتب فأقول: «لا تصدق ما يقولون».

ولكنني كما قلت بطيء القراءة. وفي الأيام الأخيرة أخذت أشك كليا في قدرتي على القراءة وأعتقد أنني ربما مصاب بعلة الدسلكسيا (العجز عن قراءة الحروف)، غير أن زميلي ربعي المدهون أهداني روايته الأخيرة «السيدة من تل أبيب». شكرته على هديته ثم فتحت الكتاب وبدأت أقرأ، وإذا بالنهار لا ينتهي حتى أتيت على 116 صفحة من الرواية. وأرجو أن يعتبر الزميل ذلك مؤشرا جيدا لا على حسن ما كتبه فقط، بل وعدم ابتلائي بعاهة الدسلكسيا. فالظاهر أن معدتي لا تهضم الغث والفج من الطعام. وما أكثر ما ابتلينا به من ذلك.

خير ما في الأدب ما ربط الدمعة بالابتسامة، وملّح التراجيديا بالكوميديا، والجد بالهزل. وقد فعل ربعي المدهون ذلك وهو في الطائرة في طريقه من مطار هيثرو بلندن إلى مطار بن غوريون في إسرائيل وبجانبه سيدة إسرائيلية شقراء. ولكنه استطاع أن يطير بنا وهو بجانبها إلى مقابر غزة. وهل من موقع أفعم بالمأساة من ذلك؟ مقبرة في غزة! وبجانبك هذه الإسرائيلية الحسناء. والمتنبي يقول:

واحتمال الأذى ورؤية جانيه

غذاء تضوي به الأجسام

ولكن مهلا. القبور والمقابر في الأدب تدغدغنا دائما وتثير الضحك في أنفسنا. كيف ننسى ذلك المشهد الخالد في مسرحية «هملت»، مشهد حفار القبور؟ يستسلم ربعي في الأخير لطلب والدته بزيارة قبر أبيه.

«الدنيا صبح يمه.. بروح بعد الظهر.. أو بعد شوي لما ارجع».

«وبتهون عليك روح أبوك؟.. إن ما رحتش هالقيت رح يروح النهار وتسافر من غير ما تزور قبر أبوك».

لا يملك غير أن يذهب للمقبرة. وهكذا قضي عليه أن يبدأ زيارته لغزة بزيارة مقبرتها. موضوع يوحي بالمأساة والبكاء لأي كاتب فلسطيني، ولكن ربعي المدهون يتفادى هذا الفخ فلا يقع فيه. يقف أمام قبر والده وينظر. يرى منديلا مطرزا بألوان الحب معلقا فوق الضريح. يطوف به التفكير. من علق هذا المنديل الأنيق المشبع بالحب؟ أمه، أرملة الفقيد يا ترى، أم سوسن الغندور عشيقة الفقيد يرحمه الله؟

هل من موقف أحفل بالسخرية من هذا الموقف الذي يواجهه هذا الابن، العائد من لندن إلى غزة؟ لقد مات الإنسان ولكن الحب لم يمت. ولم يمت حتى تحت وقع القنابل والصواريخ المنهالة من الطائرات الإسرائيلية.