معادلة س.س ودبلوماسية ع.م

TT

أدخل الرئيس بشَّار الأسد على أجندة العلاقة مع المملكة العربية السعودية (الصديق التاريخي لسورية الشعب والدولة والعائلة)، المتحدث الذي يتقن لغة التخاطب بأسلوب إتقان تقطيب الجرح الناشئ عن عملية جراحية معقَّدة، مما يعني أنه وقد وبات وزيرا متميزا للإعلام يحرص شديد الحرص على أن تنأى مفردات كلامه عن التحديات واستعمال الكلمة التي إذا قيلت في غير التأني فإنه يصعب محو آثار تداعياتها. فبعد أن زار الرئيس بشَّار المملكة ملبياً دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز لحضور افتتاح الإنجاز العلمي والتقني الواعد المتمثل بـ «جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية»، وكانت للقائديْن جولة أفق تنسجم وحقيقة مشاعر الاثنين سياسياً وشخصياً وعائلياً بينهما كان طيف الرئيس الراحل حافظ الأسد حاضرا فيها، بات مُلحّاً على ما يجوز الاعتقاد إدخال تعديل جذري على لغة التخاطب، بحيث إن المسؤول الذي يوفده الرئيس بشَّار يكون قريبا من عقل الرئيس وموضع ثقة لا تحتاج إلى مساءلات وينأى في الوقت نفسه عن مفردات هو أدرى بخشونة استحضارها. ولنا في مفردات سابقة لرسميين آخرين المثال على الضرر.

من هذا المنطَلَق وحرصاً من الرئيس بشَّار على أن تكون زيارة الملك عبد الله إلى سورية هي «أم الزيارات» التي تؤسس لانطلاقة نوعية، جاء إيفاده وزير الإعلام الدكتور محسن بلال إلى السعودية للاجتماع بزميله وزير الإعلام السعودي الدكتور عبد العزيز خوجه. وقد يكون هذا التكليف فاجأ الدكتور محسن العائد للتو من زيارة إلى الصين حافلة بالإعجاب من جانبه بالتحول البالغ الدقة والمدروس الذي يحدث في هذا البلد الملياري، وكيف أنه بأقلياته الست والخمسين وعلى رغم التحرشات من جانب بعض الأوساط في أميركا يعيد بناء الدولة على أسس من الانضباط والاهتمام بالحياة المعيشية للناس.. إنما من دون إغراق في البهرجة والاستنساخ لتقاليد الغرب. والأهم من ذلك انفتاحه على العالم وعدم التدخل في شؤون الآخرين ومواكبة التطور الصناعي العسكري والتقني إنما من دون استعراضات صاروخية وإنشاء محطات نووية بغرض التحدي. وإلى ذلك هناك أهم الأهم وهو التواضع، حيث إن الذين تعاقبوا على زعامة الصين بعد ماوتسي تونغ الذي جعل من نفسه حالة صنمية كما فعل فيدل كاسترو مِنْ بعدِه في كوبا ويحاول تشافيز وراثة هذا الفعل بعد كاسترو، اكتسبوا صفة التواضع أيضا. وبينما نرى اللسان الصيني في غاية الدفء في مخاطبة أميركا وأوروبا عموما فإننا نرى سلاطة أكثر من اللازم في اللسان الكوبي ومثيلا لها في اللسان التشافيزي مع أن التأمل في السلوك الصيني منذ الثمانينات مع دينغ سياو بينغ ثم التسعينات مع جيانغ زيمين وصولا إلى هو جينتاو الذي تسلَّم دفة القيادة قبل ثماني سنوات، كفيل بحل إشكالات كثيرة لدول بات من الضروري لمصلحة الاستقرار والطمأنينة وجذْب الاستثمارات اعتماد التحول. وفي اعتقادنا أن سورية المؤهلة لكل أنواع الاستثمارات المطمئنة أكثر من أي زمن مضى للجارة المستقرة تركيا سترى أن الصين تستحوذ على ترحيب الآخرين بها لأنها تتداخل تجاريا وطبيا وإلكترونيا معهم عوض التدخل في شؤونهم سياسيا وفئويا وبما يتسبب في صداع تنعكس تداعياته على عملية التطوير والتنمية. ولذا نرى خزانة الصين ممتلئة وخزائن أميركا وغيرها على أهبة النضوب من كثرة الثقوب والفساد والفوضى الاقتصادية في الاستثمار والعقار وبطاقات الائتمان.

ومن المؤكد أن الإطراءات الصينية لسورية الدور وسورية القيادة وسورية المفْصل الاستراتيجي التي سمعها الوزير محسن بلال، إضافة إلى ما في ملف السفير السوري المتميز والمستنير لدى الصين الدكتور خلف الجراد عن تقييم إيجابي لسورية وتصنيف القيادة الصينية لتلك الزيارة التي قام بها الرئيس بشَّار إلى الصين عام 2004 بأنها «زيارة تاريخية»، تشكِّل في حد ذاتها وقفة تأمُّل لا بد آتية من جانب الحكم السوري وهي أن مردود درهم تَداخُل أكثر جدوى من قنطار تدخُّل مباشر أو بالإيحاء.. أو من خلال أنصار عابرين على نحو ما هو حاصل من لبنانيين يستقوون بالحكم السوري من أجل أن يكونوا أصحاب شأن في السياسة وغيرها.

وفي تقديري أن لغة الحوار الذي تم بين الوزيريْن الدكتوريْن عبد العزيز خوجه ومحسن بلال، وكلاهما من جيل علمي ربحَتْه من دنيا العلوم والمختبرات والمشارط وغرفة العمليات العقلانية السياسية تعالج في «غرفة عمليات» سياسية خلال لقاء في مكتب تتخلله فناجين القهوة العربية والشاي العابق بالهيل والزعفران أو إلى طاولة طعام أو خلال استقبال أو توديع في مطار الملك عبد العزيز في جدة ينتهي عند سلم الطائرة يتم الرد عليها في دمشق بما يليق بالمقام والأريحية. ونقول ذلك لأن لغة الحوار بين خوجه الشاعر إلى جانب دكتوراه العلومية وبلال المبتكِر صياغات سياسية متأثرة بماضي القدرات الطبية الجراحية، لمست وبكثير من الإشارات التي لا تخفى على اللبيب أهمية التداخل وتفضيله على التدخل وهو أمر لا بد استشعره السياسي ـ الجراح العائد من الصين متأثرا بأهمية الدولة المتوحدة للسنة الستين على التوالي وتلك أهمية تتساوى مع أهمية الدولة المتوحدة أي المملكة العربية السعودية، التي كان الوزير بلال وهو في جولة أفق مع الوزير خوجه يعيشان معا أجواء توحُّدها للسنة التاسعة والسبعين على التوالي ووفق نهج أن التداخل بمعنى التعاطي الإيجابي والأخوي وتفهُّم الخصوصية ومراعاة الكبير للذي ليس في كِبَره، كي لا نقول الصغير، ونجدته عندما تكثر عثراته وويلاته واقتتالاته، يبقى راسخا في القلب والوجدان وأكرم من التدخل الذي تنمو على جنباته أنواع من الأعشاب الضارة، وبحيث تصبح النجدة هيمنة وطمعا وعدم اعتراف بالخصوصية. وعندما نرى أن معظم ما تقوله المملكة العربية السعودية وما كان يوجِّه به الملك عبد الله بن عبد العزيز سفيره في بيروت عبد العزيز خوجه الذي كرَّمه بتسميته سفيرا أول بدرجة وزير قبل أن يتم اختياره وزيرا للإعلام هو أن الذي يهم المملكة هو الاستقرار للبنان وأنها على مسافة واحدة من الجميع ولا نجد في أي تصريح سعودي كلاما يتجاوز النصح والتمنيات، ونرى أن بعض ما كان يقوله مسؤولون سوريون ينطلق من النظرة نفسها، فهذا يعني أن الأرضية صالحة لصياغة رؤية مشتركة لكن الذي كان يعرقل هذه الصياغة أن هوى التدخل كان أقوى من خيار التداخل وأن التعامل الأمني كان يمتزج مع السياسي ويفتقد التحرك تلك النكهة الدبلوماسية المحنِّنة، وأن المفردات الثأرية التي صدرت عن زعامات لبنانية كانت لا تتقن الروية وبذلك بدأت تتعامل مع الحكم السوري تعامُل المنتصر مع مهزوم وتعبئ الناس في اتجاه عداوة مستديمة. وتناسى بعض «أمراء الانتقام» ذوي الخلفية الميليشياوية أن الرئيس بشَّار الذي سحب القوات طوعا تصرَّف بحكمة وكان قادرا لو أراد نفْض اليد من مضمون خطاب القَسَم في تموز/ يوليو 2000 التصرُّف على الطريقة الصدَّامية عندما يصاب المرء صاحب السلطة والقرار في كبريائه. ومِن هنا أُجيز لقلمي تسجيل وجهة نظر خلاصتها أن حكاية الأكثرية والأقلية في لبنان أقرب إلى الخرافة منها إلى الأمر الواقع كما أن لعبة الديمقراطية أقرب منها إلى الدهشة منها إلى التجربة الحقيقية كما ديمقراطيات الآخرين. ولذا فإن ما كان من البدهي أن يفعله النائب سعد الدين الحريري بعد تكليفه تشكيل حكومة أن يفاجئ اللبنانيين بزيارة إلى دمشق تندرج في سياق التداخل الذي لا بد منه وتكون زيارة من أجل إزالة شوائب عالقة. أما أن ذلك لا يحدث مع أن المملكة العربية السعودية كانت سترتاح إلى حدوثه، ويتزامن مع ذلك سيل من التصريحات والتنظيرات الكيدية، فهذا كان نوعا من التعطيل. وأقول إنه كان لا بد من هذه الزيارة بل وقوْل الكلام الطيب الذي يحرج الأخ السوري. كما كان لا بد من زيارة مماثلة إلى طهران. نعم إلى طهران ومن المنطلق نفسه. أليست سورية وإيران هما الدولتان الأكثر فعالية في تيسير الأمور.

لا مجال لإضافة المزيد من المعاندة. فالسياسي الحاذق هو مَن يرى الأمور بالعين المجردة ويكون متجردا. وفي تقديري كمراقب أن معادلة س.س (السعودية ـ سورية) التي كان الأستاذ نبيه بري رئيس البرلمان اللبناني وزميل أبو الهول لبعض الوقت يطرحها ويُذكِّر بها دائما من دون اتباع التذكير بالتفعيل، وجدت في دبلوماسية ع.م (عبد العزيز خوجه ـ محسن بلال) الثنائي الذي يقوم بتطويع بعض ما استعصى من الأفكار والصيغ، وهذا أمر لن يلقى سوى الارتياح في نفس خادم الحرمين الشريفيْن الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي يواصل تنقية العلاقات مما حفلت به من شوائب ومن دون أن تستوقفه تساؤلات من هنا أو هناك.

ومنذ اللقاء الأخير للرئيس بشَّار مع الملك في جدة نقرأ هذه الحيوية في العاطفة السورية شعبا وقيادة وعائلة شخصية نحو السعودية والتي يلحظها المرء من خلال التأهب العفوي لتكون زيارة الملك عبد الله إلى كل سورية تاريخية... لزعيم تاريخي.