إسرائيل تتخذ من غزة مبررا

TT

عندما بدأ غزو إسرائيل لقطاع غزة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بدت عملية الغزو بالنسبة لقطاع كبير من الناس في واشنطن مخاطرة، لا تفي بالغرض منها، وسوف تنتهي بالإخفاق. وتوقع ليس فقط الخبراء مثلي، بل المسؤولون بإدارة بوش إخفاق الجيش الإسرائيلي، ليس فقط في خلع حكومة حماس، بل وحتى في الحد من قدرتها على شن هجمات صاروخية على المدن الإسرائيلية، بل إنهم توقعوا أن يجعل ذلك الغزو الدولة اليهودية أكثر عرضة لموجة أخرى من الانتقادات العالمية، ويعرض علاقتها بفلسطينيي الضفة الغربية، ومصر للخطر.

وإجمالا كنا على صواب، ولكن النخبة العسكرية والسياسية في البلاد تنظر الآن إلى عملية الأسابيع الثلاث باعتبارها عملية ناجحة. وتستحق الأسباب وراء ذلك الدراسة نظرا لأن هناك حكومة إسرائيلية متنمرة تفكر في تجاهل معارضة واشنطن الصريحة لشن هجمات عسكرية على إيران. وتعتمد القناعة الإسرائيلية على مجموعة من الحقائق، حيث انطلق في الفترة ما بين أبريل (نيسان) 2001 ونهاية 2008 نحو 4246 صاروخا و4180 قذيفة صاروخية من غزة على إسرائيل، مما أسفر عن مقتل 14 إسرائيليا وجرح أكثر من 400 وهو ما جعل الحياة في جنوب إسرائيل غير محتملة. بالإضافة إلى أنه خلال الفترة التي كان يفترض أن تكون فترة لوقف إطلاق النيران في النصف الثاني من 2008 انطلق نحو 363 صاروخا، وقذيفة صاروخية على إسرائيل. وفي الوقت نفسه، وفي الفترة بين أواخر عام 2000 وحتى نهاية عام 2008 قتلت القوات الإسرائيلية نحو ثلاثة آلاف من سكان غزة.

ومنذ أبريل (نيسان) وفي الأيام القليلة السابقة على الحرب، كان عدد الصواريخ وهجمات الهاون يقارب الأربع وعشرين في اليوم الواحد. ولكن تلك الهجمات لم تكن تسفر عن إصابات خطيرة، وكانت الحياة في مدينة سيدروت الإسرائيلية والمنطقة المحيطة بها سرعان ما تعود إلى طبيعتها. وقد توقفت تقريبا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة: منذ انتهاء الحرب الصغرى التي راح ضحيتها 29 فلسطينيا بينهم مدنيان. وبالطبع ما زالت حماس في السلطة، كما لم يتغير موقفها الرافض للاعتراف بإسرائيل، كما أنها ما زالت تحتفظ بجندي إسرائيلي اختطفته في 2006، وما زالت تهرب مواد لتصنيع الأسلحة من خلال أنفاق تمر تحت الحدود المصرية، وتستطيع ـ إن أرادت ـ أن تعاود شن الهجمات الصاروخية على إسرائيل في أي وقت. ومع ذلك، فقد استطاعت إسرائيل انتزاع فترة من السلام النسبي مع حماس، مثلما حدث تماما في غزو 2006 باهظ التكلفة للبنان؛ الذي أسفر عن سنوات ثلاث من الهدوء على الجبهة. ومن وجهة نظر إسرائيل، فإن الحصول على هدنة من الصراع هو أكثر ما تتوقعه من كلتا المجموعتين أو من راعيهم المشترك «إيران». وقد أخبرني أحد المسؤولين الحكوميين البارزين: «هم لن يغيروا أبدا عقيدتهم بضرورة القضاء على إسرائيل. ولكنك تستطيع ردعهم إذا كنت مقتنعا بأنك تستطيع خوض المعركة». ولكن ماذا عن معاناة الفلسطينيين في الغزو ـ أحصت إسرائيل بنفسها نحو 1166 من القتلى في غزة تتضمن 450 من المدنيين، هذا بالإضافة إلى الإدانة التي ترتبت على ذلك؟ فلم يمض سوى أسبوع واحد فقط على إدانة بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، التي يترأسها القاضي ريتشارد غولدستون للغزو الذي وصفته بأنه «هجوم عمدي غير متكافئ استهدف العقاب والاعتداء على السكان المدنيين وإرهابهم» وأوصت بتقديم المسؤولين الإسرائيليين للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وكان القادة الإسرائيليون يتخوفون من خسارة الحرب بتلك الطريقة، ولكنهم ـ كما ينظرون للموقف ـ خرجوا من الحرب بمجرد خدوش. وقد تعرضت مصر التي كانت متعاونة تماما مع إسرائيل في عزل قطاع غزة للكثير من الضغوط لتغيير سياستها، ولكنها ظلت ثابتة. ولم تشدد أي من الدول العربية موقفها من إسرائيل: ووفقا لإدارة أوباما فإنه يوجد نحو خمس دول مرحبة بتقديم امتيازات دبلوماسية واقتصادية لإسرائيل إذا ما جمدت التوسعات الاستيطانية في الضفة الغربية. وكان غزو غزة هو العملية العسكرية الثانية التي تشنها إسرائيل خلال أقل من ثمانية عشر شهرا، على الرغم من معارضة واشنطن. وكانت العملية الأولى هي قصف المفاعل النووي تحت الإنشاء في سورية في سبتمبر (أيلول) 2007، وهي العملية التي كان المسؤولون في واشنطن يتخوفون من أن تثير إدانة دبلوماسية واسعة أو حتى تتسبب في نشوب حرب بين إسرائيل وسورية. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. وفي الوقت الذي يناقشون فيه إيجابيات وسلبيات شن هجمات عسكرية على المنشآت النووية لإيران، سوف يفكر القادة السياسيون والعسكريون لإسرائيل بلا شك في ذلك التاريخ. وذلك لا يعني أنهم سوف يقللون من شأن التحفظات الأميركية، حيث ستكون إيران هدفا أصعب وأكثر تعقيدا بكثير، بالإضافة إلى الآثار المباشرة التي سوف تؤثر على الجنود الأميركيين والمصالح الأميركية المهمة في المنطقة، ولكن ـ كما بالنسبة لغزة ـ فحتى التعطيل المؤقت، أو قصير المدى لبرنامج إيران النووي سوف يعتبره الإسرائيليون مكسبا معقولا، كما أنهم يعتقدون أن ردود الفعل المتوقعة مبالغ فيها.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»