بعث مواجهة الخطر النووي

TT

لا أدري ما إذا كان ما يجري حاليا في عالم «نزع السلاح» و«الحد من التسلح» أو حتى «ضبط التسلح» يدعو إلى التفاؤل أم إن المسألة برمتها لا تزيد على كونها واحدة من المقدمات التي تقود في العادة إلى نوبات من خيبة الأمل ومزيد من أخطار التسلح. فالمعضلة في التقدير أن المسألة كلها ليست معزولة عن التطورات الجارية في منطقة الشرق الأوسط، وامتلاك إسرائيل السلاح النووي، وسعي إيران حقا أو باطلا إلى امتلاك قدرة التدمير الشامل النووية، وما جرى للعراق مرتين، واحدة منها بالحق بعد حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت، والأخرى بالباطل عند الغزو الأمريكي للعراق. ومع ذلك كله تلك الموسيقى التصويرية السياسية التي تأتي من تصريحات أحمدي نجاد النارية، وأحداث طهران المثيرة التي تضع شرعية رئيس الدولة وسياساته موضع المساءلة، وما حدث في السابق في ليبيا حول أسلحة الدمار الشامل، وما يدور حتى بعيدا في كوريا الشمالية من تجارب للسلاح النووي والصواريخ الناقلة له.

وأصل المسألة من الناحية الفلسفية والفكرية تعود إلى واحدة من تلك القضايا التي توصف عادة بأنها «مصيرية» مثل قضايا «التعاسة والسعادة» و«الغنى والفقر» و«الحياة والموت»؛ وهذه المرة «الحرب والسلام». فمع التقدم البشري أصبحت الحرب عبئا ثقيلا على الإنسان وتقدمه بما تحدثه من تدمير فاق كل العصور السابقة، وأظهرت الحرب العالمية الأولى أن كل ما عرفته الإنسانية من بربرية لا يقارن بما أصبح متاحا من وسائل للتدمير. ومن هذا المنطلق جاءت فكرة القانون الدولي والمنظمات الدولية لعلها تجعل الدول تتعايش مع بعضها البعض كما يتعايش البشر في دولة واحدة في ظل قانون واحد. ولما كان مجتمع الدول أقرب إلى الحالة الطبيعية البدائية، فإن هيمنة القانون ظهر ضعفها في أحسن الأحوال، فظهر «توازن القوى» باعتباره الضمانة التي تمنع دولة من الهجوم على دولة أخرى لها نفس القدرة على الإيذاء. ولكن المشكلة كانت مع هذا المنطق أن «حماقة الدول» كانت في كثير من الأحيان أكثر اندفاعا من «الردع» المفترض؛ وساعتها افترض أصحاب النيات الطيبة أن المشكلة واقعة في السلاح وليس في عقول البشر أو قلوبهم، ولذا، إذا كان ممكنا نزع السلاح أو الحد منه، فإن الحرب تصبح غير ممكنة إن لم تكن مستحيلة.

وإذا كان كل ذلك كان ممكنا له أن يظل في إطار النظريات أو الأفكار، فإن اختراع السلاح النووي واستخدامه المروع في هيروشيما وناجازاكي خلق فجوة هائلة في ما بين استخدام السلاح من ناحية والأهداف السياسية من ناحية أخرى، حيث لم يعد هناك هدف سياسي مهما كانت شرعيته وأصالته يساوي وقوع ضحايا بمئات الألوف أو الملايين من البشر ومعهم مدن وحضارات. ومنذ النهاية الدرامية للحرب العالمية الثانية بدأ البحث عن طريق لحماية العالم من الدمار الشامل من خلال الوكالة الدولية للطاقة النووية ومعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، وكلاهما بات ساعيا من حيث المبدأ لنزع السلاح النووي عن القوى التي تمتلكه، ودفع هؤلاء الذين لم يمتلكوه إلى الالتزام بالبقاء بعيدا عنه. وكان الإغراء الذي قدم للجميع أن يتم إخضاع الطاقة الذرية لخير البشرية من خلال الاستخدام السلمي لها في مجالات عدة لم يعد النفط المتاح في العالم كافيا لإشباعها.

ولكن ما جرى فعلا كان أن الدول الخمس المالكة للسلاح النووي ـ الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا والصين ـ ضاعفت ترسانتها النووية، وزادت من قوتها التدميرية، ونوعت من القدرة على استخدامها لأغراض تكتيكية واستراتيجية. وحتى عندما دخلت موسكو وواشنطن في مفاوضات ومعاهدات للحد من الأسلحة النووية (سالت1 وسالت2) فإنه لم يكن في الأمر حد يذكر، وإنما عملية لتنظيم سباق التسلح بين الجانبين. وحتى عندما حاول الرئيس الأمريكي رونالد ريجان أن يغير من هذه المعادلة وأن يتحول من تنظيم سباق التسلح إلى «خفض التسلح» فإن الخفض من الناحية الفعلية لم يكن يزيد عن التخلص من الأسلحة التي مضى وقتها وأوانها وما بقي كان كافيا في كل الأحوال لتدمير الكرة الأرضية بضع مرات. وتحت أنف وسمع وبصر كل هذه الأنظمة والمحاولات كانت تنمو القدرة النووية الإسرائيلية والهندية والباكستانية والكورية الشمالية. ولم تكن قوى أخرى مثل كوريا الجنوبية وتايوان وجنوب أفريقيا والبرازيل والأرجنتين بعيدة عن القنبلة بحال.

وربما كانت نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي داعية إلى قدر من التفاؤل أحيانا نتيجة إعلان عدد من الدول تخليها عن السلاح النووي، وبدا خلال التسعينيات من القرن الماضي أن معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية قد أصبحت معاهدة عالمية بحق. ولكن القرن العشرين لم يمض من دون إنهاء هذا الحلم عندما أجرت الهند وباكستان تجاربهما النووية، ومن بعدهما اتضح أن كوريا الشمالية كانت تخفي الكثير تحت غطاء معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ورغم أن المزاعم الأمريكية عن العراق ثبت زيفها، فإن الأمر تجدد مرة أخرى وبسخونة شديدة عندما ظهرت قدرات نووية إيرانية سواء اكتشفتها مخابرات الدول العظمى، أو أتاحتها إيران بنفسها لأغراض المباهاة أو النفوذ الإقليمي. ومع إيران ظهر أن كوريا الشمالية قد ذهبت في مجال إنتاج الأسلحة النووية أكثر مما كان مقدرا من كل المصادر، وما جعل تهديدها ملحا لليابان أنها كانت تتقدم بسرعة في إنتاج الصواريخ الباليستية، وهو ما كان حادثا أيضا في الحالة الإيرانية. ومما زاد الخطر النووي حدة أنه ثبت أن المنظمات الإرهابية المختلفة في العالم قد بذلت جهودا مضنية للحصول على السلاح النووي، ورغم فشلها حتى الآن، فإن ذلك لم يعن انتفاء الخطر، فقد بقي دوما متاحا للإرهابيين استخدام أشكال بسيطة من «الأسلحة القذرة» التي تستخلص مواد مشعة مما هو متاح للاستخدام المدني.

وبشكل عام، فإن تاريخ منع انتشار الأسلحة النووية لم يكن أقل من تاريخ لخيبة الأمل الشديدة حتى جاء باراك أوباما إلى البيت الأبيض وأعاد طرح فكرة «نزع السلاح» مرة أخرى، وحصل على موافقة الرئيس الروسي ميدفيديف عليها. ولم يكن ذلك مجرد أمنية وإنما خطابا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة نتج عنه قرار مجلس الأمن 1887 لعام 2009 في 24 سبتمبر الماضي الذي وضع قائمة من المبادئ الخاصة بالالتزامات العامة لضبط انتشار الأسلحة النووية على المستوى العالمي؛ وبعد القرار دفع أوباما إلى ساحة الكونجرس قرارا من أجل وقف تجارب اختبار الأسلحة النووية. فهل الأمر جاد هذه المرة، أم إنه محاولة «مثالية» من قبل قيادة غير واعية بحقائق التاريخ وما فيه من سعي لدول العالم المختلفة للحصول على ما تستطيع الحصول عليه من سلاح قادر على تحقيق أقصى من يمكن تحقيقه من تدمير؟

التساؤل هنا مشروع إلى حد كبير، فما جعل التجربة صعبة وفاشلة معا أن السلاح النووي بات جزءا من المكانة الدولية، ولم يكن ممكنا لكل من الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا أن تدخل إلى مجموعة الدول العشرين القائدة في العالم بإنجازاتها الاقتصادية وحدها، وإنما بسبب امتلاكها للسلاح النووي أو القدرة على امتلاكه خلال فترة قصيرة للغاية. ولم يكن الأمر بحثا عن المكانة فقط، إنما كان أيضا إرضاء لقوى مدنية وعسكرية باتت مصالحها ووجودها مرتبطا بالقوة العسكرية في العموم والقوة النووية خاصة. ومن يتابع نشاط المعارضين من الجمهوريين في الولايات المتحدة يجد أن كل هؤلاء لا يترددون عن إدانة أوباما ووصفه بالسذاجة وانعدام الفهم والتقدير للقوى «الشريرة» في العالم. وما لا يقل أهمية عن ذلك كله أن السلاح النووي له منطقه الذاتي، الذي يجعل كل جرعة منه دافعا لجرعات أخرى، وخاصة بالنسبة للقوى الجديدة التي تسعى إلى الجلوس على المائدة العالمية على قاعدة المساواة. ولن ينسى أحد أن «الاستثناء» الذي يعطيه العالم لإسرائيل يجعل المحاولة فيها من الشك أكثر مما تعطيه من يقين.