من أجل الأحسن

TT

كثيرا ما خطر لي هذا السؤال الذي لا يعنيني قط: لماذا يتهالك هؤلاء المليونيرية والمليارديرية على كسب المزيد من الملايين والمليارات؟ أكثرهم بلغ من السن عتيا. لا يسمح له الطبيب بالتدخين أو أكل اللحوم. لا يتجاوز أكل بعضهم ورقة خس وكسرة خبز شعير وحبتين زيتون. ليس للكثير منهم ولد ولا تلد زوجاتهم. عندهم قصور ويخوت، ولكن انشغالهم بجمع الفلوس يمنعهم من التمتع بها. لمن يجمعون هذا المال ويرتكبون مخالفات وجرائم وتزويرات ويدخلون معارك في جمعه، ولماذا؟

كل ما نفعله في حياتنا ينطلق من غريزتين: الأولى غريزة البقاء، أن تبقى حيا. الغريزة الثانية ترمي إلى تخليد النوع، أي الغريزة الجنسية. وهذه ترتبط بغريزة فرعية ثالثة هي تحسين النوع. تدفعك الغريزة الجنسية للحصول على أنثى. والأنثى لها غريزتها في أن تحصل على من يعطيها أولادا أحسن. تحسين النوع. عليك إذن أن تنال حبها لك بأن تقنعها بأنك ستعطيها نوعا محسنا، أو على الأقل جيدا. وهذا يعني تنافس الذكور عليها. على كل واحد أن يثبت لها أنه أحسن من الآخرين. وهذا سر التنافس بيننا في الإبداع والإثراء والسيطرة والغلبة. يأخذ هذا التنافس شكلا لاشعوريا. فالرصافي لم يكره الزهاوي من أجل امرأة. ولا روكفلر نافس هنري فورد من أجل حسناء، ولكنها غريزة تعمل في الخفاء. كل إنسان يسعى لإثبات أنه أحسن من الآخرين.

في المرحلة الحيوانية، كان الرجل يثبت جدارته بقوته الجسمية، يثبت جدارته بمصارعة الأسد. وفي المرحلة العشائرية، يثبت جدارته بقدرته القتالية والحربية. هكذا طالب والد عبلة من عنتر أن يغزو وينتصر ليعطيه عبلة. وعندما شاع نظام الملكية الفردية، أصبح على الرجل أن يثبت جدارته بما يملكه من ثروة. ورحنا نقيس ذلك بالمهر الذي نطلبه منه لنعطيه ابنتنا. وتركز هذا المنحى في ظل الرأسمالية. غدت جدارة الإنسان تتوقف على ما يكسبه حلالا أو حراما. فهؤلاء المليونيرية الذين يتقاتلون من أجل ملايين لا يحتاجونها ماديا أو عمليا، إنما يفعلون ذلك لإثبات جدارتهم وتفوقهم على غيرهم. إنها قضية غريزية.

في كتابي « نحو اللاعنف» طرحت هذا السؤال. طالما كانت جدارة الإنسان قد توقفت عبر العصور على قيم مختلفة، القوة الجسمية، القدرة الحربية، المقدرة المالية، أفلا يمكن تطوير هذه القيمة، بحيث نعتبر الإنسان أحسن من غيره بما يقدمه من خدمة للمجتمع؟ هذا ما سعت إليه الاشتراكية وفشلت مع الأسف. ولكن بوادر من هذا الاتجاه ظهرت حتى في إطار الرأسمالية. ففي أميركا يحتقرون المليونير الذي لا يجود بشيء من ماله وكسبه لوجوه الخير. كما عرفت كثيرا من الفتيات في بريطانيا، وعالمنا العربي أيضا، كرسن حياتهن ومالهن لشباب كرسوا حياتهم للأعمال الإنسانية أو الإبداعات الفنية والأدبية. وسيكون يوما مجيدا في تاريخ البشرية، يوم نقيّم الإنسان ونعجب به لا لماله وثروته ومنصبه وبطشه بالناس، وإنما بما يقدمه للناس من خدمة ومن إنجازات للبشرية.