مؤتمر جنيف: نجحت إيران في لعبة المماطلة والتأخير

TT

كل الأطراف المعنية ببرنامج إيران النووي لا تريد المواجهة في هذه المرحلة. كل طرف أعطى بقية الأطراف رأس حبل يتمسك به للظهور مجتمعين بأنهم كلهم اتفقوا على «التأجيل».

فعلى جانب لقاءات جنيف الأسبوع الماضي، أاجرت الولايات المتحدة وإيران محادثات ثنائية كانت الأعلى مستوى بين الدولتين منذ ثلاثة عقود، وأدّت إلى «تأجيل» المفاوضات الرسمية بين إيران والدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن زائد ألمانيا، حتى نهاية الشهر الجاري.

خافيير سولانا المسؤول عن العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، قال إن إيران أبلغت المجموعة بأنها ستسمح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة النووية بزيارة المنشأة النووية الجديدة في قم» (محمد البرادعي أكد يوم الأحد الماضي على أن المفتشين الدوليين سيصلون طهران في 25 الجاري).

من ناحيته رحب الرئيس الأميركي باراك أوباما بالتطور الأخير في جنيف مؤكدا في الوقت نفسه أن للصبر الأميركي حدودا. قال: إن موافقة إيران على تخصيب اليورانيوم في دولة ثالثة خطوة نحو بناء الثقة، وبأن برنامج إيران النووي هو للقضايا السلمية، أما إذا تلكأت إيران عن تطبيق التزاماتها، فعندها لن تستمر الولايات المتحدة في التفاوض إلى ما لا نهاية، ونحن على استعداد لمضاعفة الضغوط! ما سيحصل الآن، أن المفتشين الدوليين سيتوجهون إلى إيران، لكن إيران لن تسمح لهم بالاطلاع على كل شيء. ستريهم بعض الأشياء.

حتى الآن، تؤكد إيران باستمرار أنها بارعة في التلاعب في الوقت، واعتماد أنصاف الحلول، والالتزام بأقل ما يتوجب عليها، ذلك أنها تعرف كيف ترضي الدول التي لا تريد المواجهة فتسمح لهم، من خلال مناوراتها، بالقول إن تقدما ولو محدودا أفضل من لا تقدم، أو على الأقل فإن تقدما ما قد حصل.

بعد انتهاء مؤتمر جنيف أطل المسؤول الإعلامي لمجلس الأمن القومي الإيراني بيمان جبللي من تلفزيون «برس تي في» الإيراني ليقول إن الافتراض بأن اتفاقا تم التوصل إليه بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد، غير صحيح. وقبل هذا التصريح، نقلت وكالة أنباء «مهر» الإيرانية في اليوم التالي لانعقاد المفاوضات، عن عضو شارك في الوفد الإيراني بأن لا اتفاق تم حول التخصيب في دولة ثالثة، كما أنه لم يكن هناك من توافق حول تفتيش منشأة «فوردو» في قم. الغموض هو ما تتطلع إليه إيران، ففي السابق استغلت الغموض في تعاونها لتوفر وسائل للدول التي لا تريد المواجهة حتى تنشق في مواقفها عن تلك التي تريد المواجهة. ولأن هناك حاجة حتمية لوحدة المواقف بين الدول من أجل اتخاذ قرار بالمقاطعة، تعرف إيران كيف ترمي شعلة الشك بين هذه الدول، وتتمسك بمفتشي الوكالة الدولية، لأنهم الوسيلة الفضلى التي تساعدها في لعبة المماطلة والتأخير. في لقاء جنيف أنجزت إيران ما هدفت إليه، فهي سمحت لبعض الدول بالقول إن تقدما قد تحقق، وبالتالي فالمقاطعة غير ضرورية، وتركت البعض الآخر من الدول يردد كما يشاء أن منشأة قم خرق للاتفاق الدولي مع إيران.

نجحت إيران في جعل الاستراتيجية بيدها الآن، وهي بسماعها بعض الدول تردد أن تقدما قد حصل في جنيف، وفرت لهذه الدول مادة للدفاع عن وجهة نظر إيران ومواقفها، وتأكدت إيران من أنها ممسكة بزمام المزايدة والمساومة الآن. وما تصريح أوباما في مؤتمره الصحفي إلا تأجيل للأزمة وليس إلغاءها.

قال لي مرجع أميركي في واشنطن، إن أوباما في وضع صعب جدا، لقد وعد الإسرائيليين بمقاطعة تشل إيران، كذلك قال للأوروبيين إنه ينوي التحرك جماعيا بالتنسيق معهم، والمشكلة أن وجهات النظر الأوروبية تختلف بعضها عن بعض، وعن تلك الأميركية في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. إذن، إن أوباما لا يمكنه أن يرضي كل الأطراف على طول الخط. ويضيف محدثي: ما فعله الرئيس أوباما الأسبوع الماضي أنه أجّل الأزمة لكنه في النهاية مضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة وصعبة، وبعض هذه القرارات سيبعد أطرافا يريدها أن تبقى إلى جانبه، لكن الظروف العالمية وظروفه الداخلية لن تسمح له بترديد عبارات رنانة من دون فحوى. العبارات «الفخمة» لم تعد تكفي. أمامه: إيران وأفغانستان، ولديه خطته للإصلاح الصحي الداخلي.

الذي زاد في غموض اللعبة الأميركية ـ الإيرانية كان توجه وزير خارجية إيران منوشهر متكي عشية لقاءات جنيف إلى واشنطن. الطرفان نفيا أن تكون واشنطن وفرت فرصة لمحادثات على مستوى عال جدا، لكن رمزية الحدث كانت كافية، في الفترة الحالية فقط. ذلك أن مسؤولا كبيرا في النظام الإيراني زار عاصمة «الشيطان الأكبر»، كما أن الولايات المتحدة فتحت أبواب عاصمتها لاستقبال أحد ممثلي دول «محور الشر».

اللافت أيضا أن إسرائيل خفضت من لهجتها سامحة لعملية المفاوضات أن تأخذ مداها، ولم ترفع من مستوى تهديداتها. فقط تسريب في صحيفة «الصانداي تايمز»، بأن رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو أطلع المسؤولين الروس في زيارته الأخيرة التي لم تعد سرية، على أسماء العلماء والمهندسين الروس الذين يعملون في برنامج إيران النووي.

الرئيس أوباما يدرك جيدا أن عليه أن يبقي إسرائيل هادئة، وربما لهذا السبب ومقابل أن تتساهل إسرائيل مع نتائج محادثات جنيف، رغم كل ما يحيط بها من غموض وعدم اقتناع، أعطت واشنطن إسرائيل «تقرير غولدستون»، بحيث ضغطت في الأمم المتحدة لتأجيل مناقشته حتى شهر آذار (مارس) المقبل. وهكذا تأجلت الأزمة مع إيران بانتظار ما سترشح عنه زيارات المفتشين الدوليين والاجتماعات المقبلة، وتأجلت في المقابل مناقشة «تقرير غولدستون».

تأجيل أزمة إيران، لن يحلها ولن يخفف من حجم الورقتين الأخريين اللتين تخيمان بثقلهما فوق أوباما: ورقة داخلية حول برنامجه للإصلاح الصحي، وورقة خارجية اسمها أفغانستان، والصراع القائم بين استراتيجية نائب الرئيس جو بيدن الذي يريد تقليص عدد القوات في أفغانستان وتحجيم المواجهة فيها إلى حرب على الإرهاب تخوضها القوات الخاصة، وبين استراتيجية الجنرال ستانلي ماكريستال القائد العسكري الأميركي لقوات الأطلسي في جنوب أفغانستان الذي يطالب بالمزيد من القوات، وقد دعمه في ذلك قائد الجيش البريطاني الجنرال دايفيد ريتشاردز، متجاوزا بذلك دوره العسكري، وحالة الفتور القائمة بين أوباما ورئيس الوزراء البريطاني غوردون براون. إذا اضطر الكونغرس الأميركي إلى تمرير أجزاء من برنامج أوباما الصحي، فإنه لن يترك أمامه مجالا للمناورة واسعا على الجبهة الخارجية في العراق، وإيران وأفغانستان، مع ما يتطلبه ذلك من جيوش وأسلحة وأموال. من هنا جاءت زيارة أوباما لكوبنهاغن، فهي لم تكن من أجل استضافة مدينته شيكاغو للألعاب الأولمبية، بل للقاء بعض المسؤولين الأوروبيين والمراجعة وإياهم للاستراتيجية الجديدة في أفغانستان.

أوباما يعرف أن الكونغرس سيطرح الكثير من الأسئلة حول أفغانستان، لذلك طلب عدة أسابيع لمراجعة الاستراتيجية الجديدة، حتى إذا ما قرر زيادة عدد القوات، وتغيير الدور العسكري، فلأنه يريد أن يظهر للكونغرس أن معه تعاونا أوروبيا كبيرا. حتى تتفرغ لأفغانستان، تفضل الولايات المتحدة إنجاح التعاون والتنسيق مع إيران، فهذا يساعدها على تسهيل انسحابها من العراق، لكن واشنطن تدرك أنه لا يمكن تجنب المواجهة إلى ما لا نهاية إذا ما شعرت إسرائيل بأن وجودها مهدد.

الأسابيع القليلة المقبلة تحمل الكثير من المستجدات. واشنطن وحلفاؤها سيركزون على مراقبة شاملة وكاملة وشفافة لبرنامج إيران النووي، وإذا لم تتجاوب إيران، لا يبقى إلا فرض مقاطعة تشمل الوقود. يقول لي المرجع الأميركي: إن طهران تعرف أن الغرب والرئيس أوباما بالتحديد لا يريدون حربا. روسيا تعرف أن الغرب لا يريد حربا، وتدرك الأزمة التي يتخبط بها أوباما، لذلك تريد أن تبقى القوات الأميركية متورطة في الشرق الأوسط. ويتوقع أن تظل روسيا تلوح لإيران بالمساعدة النووية والتكنولوجيا العسكرية المتطورة، من دون توفيرها بالكامل إنما ما يكفي لإثارة قلق واشنطن. ويضيف: إن الروس منكبّون على العمل لزعزعة أسس أي مقاطعة صارمة، لا بد أن أميركا وحلفاءها سيقدمون عليها بحق إيران لاحقا، لأن إيران لن تصدُق على المدى المتوسط.

ويقول: تملك كل من روسيا والدول الدائرة في فلك نفوذها، أذربيجان وتركمنستان، القدرة كي توفر لإيران شحنات من الوقود التي تحتاجها، ويمكنها أن توفرها لها بحيث أن حصارا بحريا أميركيا خليجيا لن يؤثر على هذه الشحنات. المكان الوحيد الذي لن تعرقل فيه روسيا هو أفغانستان.

ويقول محدثي: الدائرة تكاد تكتمل. لقد ساهمت أميركا بكل جهدها لإخراج السوفيات من أفغانستان بهزيمة، حانت الآن فرصة الانتقام الروسي والساحة ستكون إيران. موسكو مستعدة أن تتخلى عن كل خططها الإيرانية في لحظة واحدة، شرط أن تدفع أميركا الثمن المطلوب.

التاريخ يعيد نفسه، الأبطال أنفسهم بملابس جديدة، بعد انتهاء الحرب الباردة، وإنما اختلفت المسارح وازداد عددها، والرئيسي منها الآن هو المسرح الإيراني.