التحدي الأكبر أمام التحول الديمقراطي

TT

يمر المشروع الديمقراطي في الشرق بانعطافة مصيرية وخطيرة للغاية، تظهر مؤشرات ودلالات بالغة الأهمية، فمن جانب يبدو هذا المشروع متسارعا في خطاه، قويا ينتشر بسرعة، بينما يبدو الجانب الآخر من الأمر سوداويا يدعو للإحباط والقنوط.. هذا هو باختصار شديد حال التجربة الديمقراطية في العالم النامي. وتشكل هذه اللحظة تلك الانعطافة الخطيرة التي سوف يحسم فيها مصير هذه التجربة العتيدة، وللتأكيد فقط فإن استخدامي لعبارة التجربة الديمقراطية بدلا عن التجارب الديمقراطية، يعود إلى أن التمعن في ملامح هذه التجربة في كل من البلدان التي تمارسها على حدة تضعنا وجها لوجه أمام تشابه، بل تطابق مفزع أحيانا، هذا من جانب، وعلى الجانب الآخر فإنني أعتبر الممارسة الديمقراطية في بلداننا تجربة واحدة تتأثر ببعضها، وتكمل بعضها البعض، ويظهر هذا التأثر جليا في كلتا حالتي النجاح، أو الإخفاق. وأكبر تجل لهذه اللحظة الرمادية التي تمر بها التجربة الديمقراطية هو الانقسام الكبير الذي نشهده اليوم بين المفكرين الأمريكيين بخصوص مسألة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.

على الجانب المضيء يخبرنا مشهد العالم النامي بأن الديمقراطيات في تزايد مستمر وأن عجلة الدمقرطة لن تعود إلى الوراء، وهذا ما تؤكده العديد من الأبحاث والدراسات التي قام بها كبار مفكري العالم من صموئيل هانتغتون الذي طرح هذا الأمر تحت مسمى الموجة الثالثة للديمقراطية، إلى ظهور عبارة الموجة الرابعة للديمقراطية والتي باتت ترتبط باسم المفكر الأمريكي ومستشار الرئيس أوباما للشؤون الروسية مايكل ماكفول، وهي آراء تؤكدها تقارير عدة مؤسسات دولية منها بيت الحرية الذي يؤكد في تقريره السنوي للعام 2005، على أن نسبة الدول التي تتمتع بحرية جزئية ازداد من (48.4%) عام 1973، إلى (67.6%) في العام 2005. أما على الجانب الآخر فإن التمعن في ملامح هذه الأنظمة والمجتمعات يخبرنا بأن الأمر ليس بالتفاؤل الذي يبدو لأول وهلة، وهذا ما دفع العديد من المفكرين للبحث في هذه العقدة التي تبدو مستعصية. وفي مقدمتهم كارل جيرشمان رئيس الوقفية الوطنية للديمقراطية (NED) ورئيس الحركة العالمية للديمقراطية، الذي توصل إلى استنتاج خطير مفاده أن الموجة الثالثة للديمقراطية أنتجت أنظمة سياسية هجينة، تحمل في نفس الوقت صفات الديكتاتورية والديمقراطية معا. ومنهم أيضا مايكل ماكفول الذي يقدم نموذجه فيما يخص التحول الديمقراطي في مجتمعاتنا منطلقا من الاستنتاجات التي توصل إليها جيرشمان.

لقد حدد هؤلاء المفكرون من قبل أحد أخطر ملامح هذه الأنظمة والتي تعد بالفعل أحد أكبر وأخطر العوائق التي تقف في طريق التحول الديمقراطي في العالم النامي، والمقصود هنا بالتحديد إجراء انتخابات غير نزيهة. صحيح أن مجتمعاتنا كانت إلى عقود خلت ترفض فكرة الانتخابات، وصحيح أيضا أن أنظمتنا باتت ترضخ أكثر فأكثر لضغوط مجتمعاتنا ولضغوط التغييرات الدولية، فاضطرت للقبول بإجراء انتخابات دورية، أو شبه دورية، لكن الصحيح أيضا أن هذه الانتخابات يشوبها الكثير وأن نتائجها لا يقررها إرادة الناخبين الحقيقية، بل إن العامل الحاسم في كل هذه الانتخابات، أو أغلبها هو التزوير، الذي بات يشكل الملمح الأساسي لكل الانتخابات التي تجرى في العالم النامي. ويشكل التزوير الملمح الرئيسي المشترك لغالبية الانتخابات التي جرت هذا العام.

كان المؤمل هو أن يكون عام 2009 عام الديمقراطية، وذلك لكثرة الانتخابات التي جرت، أو من المقرر أن تجري فيه، من كردستان العراق إلى أفغانستان وإيران وموريتانيا مرورا بلبنان وتركيا وانتهاء بمولدافيا. وللأمانة يجب أن نقر بأن بعض هذه الانتخابات جرت بطريقة أكثر قبولا من البقية، منها حالات تركيا ولبنان، لكن الكارثة تكمن في بقية الحالات التي تم ذكرها، فالسمة الرئيسية التي تجمعها هي الطعن في نزاهتها وشرعية نتائجها، كل الحالات الباقية طعنت المعارضة وهيئات الرقابة المحلية والدولية في نزاهتها وجرى الحديث عن اتهامات بإجراء عمليات تزوير كبيرة وواسعة النطاق من قبل السلطات الحاكمة. ما يجمع هذه الحالات أيضا هو رفض النتائج من قبل المعارضة وبصوت عال، وإن تجلى هذا الرفض بممارسات مختلفة، لكن الصحيح أيضا هو أن ما يجمع هذه الحالات هو تمكن السلطات الحاكمة من فرض النتائج غير الشرعية على شعوبها وعلى العالم أجمع.

تأتي الحالة المولدافية لتشكل خرقا مهما وأملا في تغيير هذا الواقع المأساوي لمصادرة إرادة الشعوب عن طريق صناديق الاقتراع، ففيما نجحت السلطات الحاكمة في كل الحالات من فرض نتائج التزوير، وفشلت المعارضة في إلغاء تلك النتائج، تقدم الحالة في مولدافيا صورة مغايرة تماما، إذ فشلت السلطات في فرض نتائجها على الشعب، فيما نجحت المعارضة في إجبار السلطة على إلغاء النتائج وإعادة عملية الانتخاب مرة أخرى كل ذلك في غضون ثلاثة أشهر فقط.

خلاصة القول هي أن عملية التحول الديمقراطي، تقف الآن في لحظة رمادية تحتمل السير إلى أمام، أو النكوص إلى الوراء، وعلى نتائج هذا الصراع والحراك يتوقف مصير هذه اللحظة، فعمليات التزوير التي باتت تشكل السمة الأساسية المشتركة لانتخابات العالم النامي، تنذر بخلق حالة إحباط لدى الناخب قد تدفع به إلى العزوف عن المشاركة السياسية، فلو كان التزوير سيغلب إرادته في كل الأحوال، فلم يتجشم أصلا، عناء المشاركة في الاقتراع. في المقابل فإن على المجتمع الدولي أن يلجأ إلى أساليب فاعلة تحسم مصير هذه اللحظة الرمادية باتجاه المزيد من الديمقراطية ومنع عمليات التزوير، فالمؤكد أن القوى السياسية المحلية قد تتمكن من منافسة السلطة، لكنها لن تتمكن أبدا من منع عمليات التزوير، والحالة في كردستان العراق خير دليل على ذلك، إذ تمكنت قائمة التغيير في فترة قصيرة من منافسة الحزبين الكرديين الحاكمين، فيما لم تتمكن من إلغاء نتائج عمليات التزوير الكبيرة، وهذا يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية جسيمة تحتم عليه التحرك الإيجابي لحل هذه العقدة المستعصية التي تشكل عائقا خطيرا أمام عملية التحول الديمقراطي في العالم، وإلا فإن العالم مقبل على حقبة مظلمة لا يعرف ملامحها إلا الله.

*كاتب كردي عراقي