مراقبة الجني يرقص

TT

«أرادوا تدميرنا، فحولناهم أقزاما!»، هكذا وصفت صحيفة «كيهان» النتائج التي تمخضت عنها محادثات الخميس الماضي في جنيف بين الجمهورية الإسلامية من جهة ومجموعة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وألمانيا من جهة أخرى.

وأعربت الصحيفة، التي تعد صوت الجناح الراديكالي في إيران، عن اعتقادها أن إيران حققت «نصرا كاملا»، وأنه ينبغي أن تنظر ضمنيا إلى المراحل المقبلة من المفاوضات كمجرد إجراءات شكلية.

للوهلة الأولى، لا يبدو احتفاء «كيهان» بالنصر المزعوم في غير محله، ذلك أنه تحت ضغوط من الرئيس باراك أوباما، تنازلت مجوعة الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن وألمانيا، على ما يبدو، عن ثلاثة قرارات تطالب إيران بوقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم.

من جهته، أبدى أوباما دوما حرصه على تجنب الإشارة إلى هذه القرارات التي يفترض أنها «ملزمة». كما أنه لم يطلب من طهران تقليص، ناهيك عن وقف، أي من جوانب برنامجها النووي.

الواضح أن هدف أوباما الرئيسي يتركز في اجتذاب الجمهورية الإسلامية على أمل تحويلها من خصم على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، إلى شريك، إن لم يكن إلى صديق فعلي، في المستقبل. ويرغب أوباما في الدخول في «خطبة» كاملة مع طهران، حتى إن رفضت الأخيرة الزواج في نهاية الأمر. والمؤكد أن قرار أوباما بالتخلي عن الخطط الأميركية لبناء درع صاروخية في بولندا وجمهورية التشيك صادف هوى إيران.

كما أن مسألة منح وزير الخارجية الإيراني، منوشهر متقي، فيزا لزيارة واشنطن لا يمكن النظر إليه إلا باعتباره إشارة ودية من جانب إدارة أوباما.

ويعد رفض أوباما مساندة حركة التظاهرات التي اشتعلت في إيران في أعقاب الانتخابات الرئاسية إشارة أخرى على رغبة الإدارة الجديدة إقصاء نفسها عن موقف سالفتها القائم على المواجهة.

بفضل أوباما، تحولت قضية البرنامج النووي الإيراني من قضية منع إلى قضية تفتيش. ولم تعد لدى القوى الكبرى، بزعامة الولايات المتحدة، رغبة في دفع الجني الإيراني النووي بالقوة للعودة إلى المصباح. وإنما بات كل ما تطلبه مشاهدة رقصة الجني المرعبة.

قبل محادثات جنيف، كان خصوم الرئيس محمود أحمدي نجاد يتهمونه باتباع «سياسيات مغامرة قد تسفر عن عقوبات أو حرب». إلا أنه الآن بات واضحا أنه لن تُفرض أي عقوبات ضد طهران، في الوقت الذي لا يمكن لأحد فيه، بما في ذلك إسرائيل، التفكير بشأن شن حرب ما دامت المحادثات مستمرة. وقد جرى تصميم هذه المحادثات كي تستمر وتستمر...

من المقرر حدوث مواجهة على مستوى أدنى بين الجانبين نهاية هذا الشهر. بعد ذلك سيتوافر لدينا تقرير جديد من الوكالة الدولية للطاقة الذرية نهاية نوفمبر (تشرين الثاني). ومن المتوقع عقد لقاء آخر مطلع العام المقبل لدراسة التقرير واقتراح إجراءات لبناء الثقة. يُذكر أن وزير الخارجية الإيراني متقي، يتحدث بالفعل عن قمة بين ممثلين عن مجموعة الدول الخمس وألمانيا من ناحية وأحمدي نجاد من ناحية أخرى في وقت ما عام 2011.

من الناحية الظاهرية، أحرز أحمدي نجاد نصرا دبلوماسيا كبيرا باستطاعته استغلاله ضد خصومه الداخليين من خلال الادعاء بأن توجهاته الراديكالية حققت نتائج عجزت التوجهات «المعتدلة» المزعومة لسابقيه عن الوصول إليها.

ومع ذلك فإن راديكالية أحمدي نجاد وعجزه عن إدراك متى ينبغي عليه تعديل مواقفه قد تفقده هذا النصر (عند نقطة ما، وصف سياسته بأنها قطار يمضي قدما بسرعة قصوى دون مكابح أو قابض أو جهاز لتبديل السرعة).

على الصعيدين السياسي والدبلوماسي، مثلما الحال بمجالات الحياة الأخرى، يعد الإفراط دوما عدو النجاح. ويعج تاريخ الجمهورية الإسلامية بأحداث أسفر الإفراط فيها عن نتائج مأساوية. على سبيل المثال، أصدر الخوميني أوامره، في أعقاب معاينته انتصار ثورته في أشهر قلائل وبحد أدنى من الخسائر البشرية، ببضعة أحكام إعدام عاجلة للتأكيد على توجهاته الراديكالية. لكنه عجز عن إدراك الوقت المناسب للتوقف. وكانت النتيجة وقوع عشرات الآلاف من عمليات الإعدام، غالبا من دون محاكمة، تسببت في تحول الكثير من حلفائه السابقين إلى أعداء.

عام 1979، كان الرئيس الأميركي جيمي كارتر، مفعما بمشاعر الإعجاب والانبهار تجاه الخوميني. وكتب خطابات إلى آية الله أثنى عليه خلالها أشد الثناء. كما وعد باستئناف مبيعات الأسلحة إلى إيران ومساعدتها على التحول إلى حلقة وصل كبرى في «الحزام الإسلامي الأخضر» المصمم بهدف خنق الاتحاد السوفياتي السابق حتى الموت.

في الواقع، كان وجود كارتر في البيت الأبيض آنذاك بمثابة عطية من «الإمام المخفي» إلى الخوميني.

بيد أن آية الله لم يعِ ذلك. وجراء عدم إدراكه لكيفية كبح جماح إفراطه، دفع الخوميني كارتر خارج البيت الأبيض، ليخسر بذلك أفضل صديق أميركي، كانت الجمهورية الإسلامية لتأمل الحصول عليه على الإطلاق.

الآن، يعد أوباما بمثابة تجسد جديد لكارتر، فهو أيضا يود أن يصبح صديقا للجمهورية الإسلامية فقط إذا ما سمح له قادتها بذلك.

وينظر أوباما إلى الولايات المتحدة كقوة متغطرسة أخطأت في حق الكثير من القوى الأضعف، بينها إيران. وقد ألمح إلى رغبته في التكفير عن خطايا حقيقية أو متخيلة سابقة للبلاد التي يقودها حاليا. في ما يتعلق بإيران، يرغب أوباما في الاستسلام أمام الجمهورية الإسلامية مع ضمان حد أدنى من حفظ ماء الوجه.

وقد يساوره الاعتقاد أيضا أن التهديد الحقيقي أو المتخيل بإمكانية ظهور إيران مسلحة نوويا بمقدوره مساعدته في تناول قضايا أخرى. على سبيل المثال، قد يقنع ذلك الخطر إسرائيل والعرب بتنحية عداءاتهما جانبا في مواجهة تهديد أكبر أمام الاثنين. ومن شأن تحويل الجمهورية الإسلامية إلى شريك، إن لم يكن إلى صديق، كذلك التأكيد على اعتقاده بأن بلاغته أحرزت نتائج ربما كانت ستعجز عن تحقيقها كامل القوة العسكرية الأميركية. علاوة على ذلك، فإن ترويض الجمهورية الإسلامية ـ الأمر الذي عجز عنه خمسة رؤساء أميركيين متعاقبين ـ من الممكن أن يضمن إعادة انتخاب أوباما عام 2012.

إلا أنه في الوقت الراهن مؤشرات توحي بأن أحمدي نجاد يميل إلى المطالبة بالمزيد دون تقديم أي شيء في المقابل، حتى إن كان ذلك يعني تقويض عملية تخدم مصالح الجمهورية الإسلامية.

تجدر الإشارة على أن مكتب أحمدي نجاد نشر كتابا بعنوان «أميركا على مشارف النهاية»، يحدد استراتيجية لضمان «الإذلال الكامل» لـ«الشيطان الأكبر». يستدعي الكتاب إلى الأذهان عبارة الخوميني الشهيرة «أميركا ليس باستطاعتها القيام بأي شيء!»، ويدّعي أن الجمهورية الإسلامية، المشار إليها باعتبارها «القوة الصاعدة»، لا ينبغي أن تقدم أي تنازلات للولايات المتحدة، التي يصفها الكتاب بـ«القوة التي يوشك نجمها على الأفول».

هكذا تَصرّف أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية في يونيو (حزيران) الماضي. ولم يرضَ بالفوز بإعادة انتخابه فحسب، وإنما أراد الفوز بأكبر عدد من الأصوات في تاريخ إيران، وفي الوقت ذاته إذلال خصومه بدفعهم نحو الهزيمة حتى داخل بلدانهم. الواضح أنه لم يشبع بعد، وما زال راغبا في المزيد.