إدوارد سعيد في وصيته الأخيرة

TT

مضى على رحيل إدوارد سعيد ست سنوات حتى الآن، فقد توفي في أواخر شهر سبتمبر عام 2003. وقد افتقدناه لأنه كان أحد المثقفين الكبار القادرين على تحليل الأمور وإنارة الطريق وسط ظلام حالك ومزايدات مملة لمثقفي التيار القومجي الأصولي. أقول ذلك على الرغم من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها، رحمه الله، في كتابه الشهير «الاستشراق». فالواقع أن إدوارد سعيد لم يكن مختصا في الدراسات العربية الإسلامية وإنما في النقد الأدبي المقارن. وشتان ما بينهما. ولذلك سهل على الثعلب العجوز برنارد لويس أن يمسكه على أخطاء كبيرة بالجرم المشهود. هذا لا يعني بالطبع أن أطروحاته كلها خاطئة في كتاب الاستشراق، ولكنه يعني أن النزعة الديماغوجية تغلبت لديه على النزعة العلمية. فكلامه لا ينطبق على الاستشراق العلمي الرصين، وإنما فقط على الاستشراق السطحي المسيس. هل شعر إدوارد سعيد بالخطأ الذي ارتكبه وأراد تصحيحه قبل أن يموت؟ ربما. على أي حال هذا ما يرشح من آخر مقال كتبه وأرسله إلى أصدقائه الفرنسيين اليساريين في مجلة «اللوموند ديبلوماتيك»، وقد خلع عليه العنوان الجميل التالي: «النزعة الإنسانية: آخر متراس لنا ضد البربرية». ولا نبالغ إذا قلنا إن هذا النص يمثل وصيته أو كلمته الأخيرة. في هذا النص يدين إدوارد سعيد المحافظين الجدد من جهة، والأصولية العمياء من جهة أخرى. وهو يعتبرهما الخطر الماحق على النزعة الإنسانية التي ينبغي أن تقودنا أخلاقيا في الشرق كما في الغرب.

في الواقع إن سعيد يبدو حزينا ومهموما لأن أميركا في عهد المحافظين الجدد سقطت في نوع من الاستشراق الجديد العدواني الذي يتبنى نظرية صدام الحضارات على طريقة هانتنعتون وبرنارد لويس. ولكنه حزين أيضا لأن العالم العربي والإسلامي سقط في أحضان الأصولية المتعصبة. وبالتالي فنحن، أي أصحاب النزعة الإنسانية وحوار الحضارات، أصبحنا بين فكي كماشة، وهامش حريتنا أو حركتنا تقلص إلى حد كبير. ولكن لا ينبغي الاستسلام أمام هذا الوضع الخانق. ما هو الحل الذي يقترحه سعيد للخروج من هذا المأزق؟ بالإضافة إلى الفلسفة الإنسانية فإنه يدعونا إلى التمسك بأهداب الخطاب العالمي العلماني والعقلاني. لماذا؟ لأن المذاهب والطوائف تفرق بالضرورة بين البشر في حين أن الخطاب العقلاني هو وحده القادر على جمع كل الشعوب على أرضيته الرحبة الواسعة. العقل البشري واحد، ولكن المذاهب والعقائد عديدة شتى، وهذا ما قاله الفيلسوف الفرنسي أرنست رينان في القرن التاسع عشر أيضا. هل يعني ذلك أن إدوارد سعيد متفق مع المعري في بيته الشهير: «كذب الظن لا أمام سوى العقل مشيرا في صبحه والمساء»؟ دون شك.

ولكن هذا ما يقوله القرآن الكريم أيضا وإن بطريقة أخرى. بالأمس القريب كنت أتجول في ضواحي باريس المجاورة لبيتي مع الصديق والكاتب الشاب ممدوح المهيني، فمررنا على الجامع الجديد الذي دشنوه مؤخرا على شواطئ البحيرة تقريبا وفي منطقة من أجمل المناطق. فماذا وجدنا؟ وجدنا ليس فقط الجامع وإنما هناك إلى جواره أيضا مكتبة ثم كافيتريا يجتمع في رحابها الفرنسيون والعرب ويشربون الشاي على الطريقة المغربية الأصيلة. وفي المكتبة وقع بصرنا فورا على الترجمة الفرنسية لكتاب ابن رشد «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». وبالطبع فالنسخة العربية من الكتاب موجودة في الداخل. ومعلوم أن هدف الكتاب هو التوفيق بين الإيمان والعقل، أو بين الفلسفة الإغريقية والدين الإسلامي. وزاد من سعادتنا أننا وجدنا الآية الكريمة التالية منقوشة على واجهة المسجد بالخط العربي العريق والجميل: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». هذه الآية تؤسس لحوار الحضارات وللتقارب بين البشر والشعوب، بل وتخلع المشروعية على الحوار الإنساني الذي كان دائرا في الكافيتريا بين الفرنسيات والعربيات أو بين الفرنسيين والعرب رجالا ونساء.

قد تقولون إني ابتعدت كثيرا عن إدوارد سعيد؟ لا، لم أبتعد، فهو في نفس المقالة يدعونا إلى فتح باب الاجتهاد في الإسلام، ويعتبر أن إغلاقه كان بمثابة كارثة ثقافية كبرى بالنسبة لعصرنا. فلو أنه لم يغلق قبل ألف سنة لما اكتسحت الأصولية الظلامية الشارع العربي كل هذا الاكتساح. من المعلوم أن الأصوليين استخدموا كتاب «الاستشراق» لتأخير هذا الاجتهاد بالذات، بل وافتخروا بأن مثقفا عربيا مشهورا يدين العلم الحديث في عقر داره! واعتبروه دلالة على فساد الاستشراق كله بما فيه الاستشراق الأكاديمي العالي المستوى الذي طبق المنهج التاريخي على التراث لأول مرة وأدى إلى كشوفات وإضاءات لم يسبق لها مثيل. وأعتقد أن ذلك قد حزّ في قلب إدوارد سعيد كثيرا فشعر بالخطر أو بالخطأ، وأراد الاعتذار عنه بشكل غير مباشر في هذا المقال الأخير.