مأدبة العصافير

TT

في حديقتنا شجرة توت لا يهمها إهمال ولا عناية. ليست لنا، بقدر ما هي للعصافير. لا تحاكينا ولا نحكيها. نهتم بالزهور التي تذبل سريعا دون سقي، ونهملها كما لو كانت في رزق غير رزقنا. عودتنا على الاستقلال فاعتدنا، بكل قسوة. نتذكرها فقط ونحن في الطريق من شجرة إلى آخرها. ونرمقها دون أن نتوقف، كأنها فاجرة تخشى أن تفجر بنا. لكن صمتها جميل ونسيمها مثل هواء مراوح الحرير اليابانية المزركشة.

نحن مجرد بيت عاق آخر في لبنان. هذه الشجرة كانت ذات زمن مصدر بقائنا الوحيد ودخلنا الأوحد. إنها الشجرة التي يصنع من أوراقها أرقى أنواع الحرير. هي أم الشرانق وأم الفراشات وأم المداخيل التي حالت دون مجاعة اللبنانيين أوائل القرن الماضي، كان موسم الحرير عندنا مثله في الصين. وكانت له مصانع وأنوال، وكان أمام كل بيت متواضع بضع أشجار من التوت تدر عليه شيئا ما، وتعينه على فقر الأرياف.

فجأة تُرِكت أشجار التوت وحيدة تذوي أو تُقطع. جاء الحرير الصناعي فأباد الحرير الطبيعي كما فعل اللؤلؤ الياباني بلؤلؤ البحرين. واستبدل المزارعون بشجر التوت بساتين التفاح، لكنهم اكتشفوا أن التفاح شجر مدلل مغناج ولوع، يحتاج إلى عناية فائقة وإلا غضب وسقط. ظنوه مثل التوت، متقشفا صلبا أخضر وصبورا، لكنهم وجدوا أن التفاحة مثل البقرة الهولندية، مستعدة لأن تعطي أفضل المواسم، شرط أن تسمعها دائما موسيقى بيتهوفن وباخ. وسوف تنقطع عن الإدرار إذا أسمعتها «الروك آند رول» أو الكليبات الحديثة.

جميع الكتب القديمة في لبنان تدور حول مواسم القز والحرير. وكذلك بعض أجمل أغاني ومسرحيات الرحابنة. وهم سموا موسم القز «موسم العز» لأنه كان فيه خير للجميع. وعلى نحو ما، كان التوت نخيل القرى. أو كمثل البرتقال في فلسطين والزيتون في تونس. ثم انهار موسم العز، عاما بعد عام. واختفى «القنباز» الحريري (الجلابية) الذي كان يرتديه الوجهاء، مذهبا ومقصبا. واختفت أيضا الصدرية المذهبة. وانتهى عصر الرحابنة الذي اخترع لنا لبنانا ورديا مثل أفلام ديزني. وبقيت هذه الشجرة على طرق الحديقة. والبلدية تريد توسعة الطريق «فما حاجتكم إليها»؟ وقلت إنها الدار التي أستقبل فيها أصدقائي العصافير يغنون لي أغاني موسم العز.