لعبة الأيام

TT

من النعوت التي كان ينعتنا بها الآباء أننا «أبناء آخر زمن»، ونحن اليوم نردد على أبناءنا نفس الأسطوانة، وهم بدورهم سيكررونها على مسامع أبنائهم، وسيستمر تقاذف الكرة حتى قيام الساعة.

آباؤنا نظروا إلى جيل عبد الحليم حافظ بأنه الجيل الذي أنزل الطرب الأصيل من عليائه، وأدخله عالم الميوعة ليفقد الطرب عذوبته وسحره، ونحن اليوم نتحسر على زمن عبد الحليم، وننظر إلى جيل عمرو دياب وتامر حسني بأنه جيل «النطنطة» الفنية الذي حوّل الاستماع إلى الغناء من الآذان إلى العيون.

آباؤنا نظروا إلى لاعبي الكرة السابقين بأنهم مجموعة من أصحاب الحظوظ العواثر الذين أضاعوا عمرهم سدى في الركض خلف تلك الكرة الملهاة، ونحن ننظر إلى لاعبي الكرة اليوم بأنهم الأذكياء الذين استحلبوا موهبتهم لتغدق عليهم مطرا أخضر من أوراق «البنكنوت».

آباؤنا انتقدوا ارتداءنا لـ«البنطال»، واعتبروه تشبها بالغرب، وبعضنا اليوم ينتقد المرأة التي تلبس «البنطال»، ويعتبر سلوكها تشبهاً بالرجال.

آباؤنا قيدوا أنفسهم في سجن المثل «صنعة أبوك لا يغلبوك»، فظل ابن البناء بنّاء، وابن الحداد حدادا، وابن البحار بحّارا، وتمرد أبناؤنا على المثل، فغدا ابن البناء مهندسا معماريا، وابن السائق طيارا، وولد «البوّاب» مالك عقارات «قد الدنيا».

آباؤنا رددوا على مسامعنا في لحظات غضبهم: (إذا فلحت «....» على قبري)، وحينما فلح بعضنا ذهب إلى قبور آبائه ليقبّل التراب الذي ضم تلك الأجساد اعترافاً بحسن تربيتهم.

آباؤنا عاشوا على الشموع ومصابيح «الكيروسين»، وحلموا بالنور يسرج لياليهم المظلمة، ونحن نطفئ النور لنسهر على ضوء الشموع في ليالينا الحميمة.

حتى أديب إيطاليا الكبير بيراندللو لم يسلم من تباينات الأجيال، فوقف على بساط الحيرة أمام التطورات السريعة التي شهدها زمنه قائلا على لسان أحد أبطال روايته: «نعم أربعة أجيال من الإضاءة: الزيت والبترول والغاز، والكهرباء، إنه لأمر يدير الرؤوس»، ليمضي بعد ذلك في لعبة التباينات ويقول: «ما أكثر الأشياء التي كنت أشاهدها في ذلك الظلام بواسطة تلك الأضواء الشاحبة الخافتة التي كانت تساعدني على رؤية ما لم تقدرون على رؤيته بهذا المصباح الكهربائي الساطع».

نحن غرباء في عيون الآباء، والأبناء غرباء في عيوننا.. إنها لعبة الأيام.

[email protected]