القمة السعودية ـ السورية.. وميض نور في الظلمة

TT

من الناس من يقول الكلمة ثم يملص منها أو ينساها.. والسبب هو أنه لم يقلها عن صدق ووعي وإرادة جازمة.. ومن الناس من يقول الكلمة ثم يثبت عليها ويتذكرها دوما ويستصحبها في حراكه المستمر.. والسبب هو أن هذا النوع من الناس يصدق في كلمته، ويقولها بكامل وعيه، و(ينوي) العمل بمقتضاها في مقبل الأيام.

ونستطيع القول: إن الملك عبد الله بن عبد العزيز يُصنف في هذا النوع الثاني من الناس.

كيف؟

قبل قمة الكويت الاقتصادية ـ مثلا ـ كانت (الصورة العربية العامة) على النحو التالي: تضاد في المواقف والإرادات العربية (راجع مناخ قمة دمشق الدورية مثلا).. وتقسيم الدول العربية إلى دول معتدلة ودول متطرفة أو ممانعة ـ للتلطيف والتخفيف ـ !! (وهو تقسيم صكه أغراب وفق معاييرهم ومصالحهم البحتة).. وتباعد المواقف في حالة قومية عامة وهي حالة العدوان الصهيوني على غزة.. وحسرة قاتلة اعتصرت أفئدة الشعوب العربية.. وحملات إعلامية غير مسؤولة وغير عقلانية تراوحت بين الخفة والطيش والسفه والجنون.. وضياع القضايا السياسية العربية بوجه عام.. وحدوث صدوعات هائلة في الأمن القومي العربي تمثلت في فراغ مرعب تقدم لملئه آخرون: من هنا وهناك وهنالك.

هذا هو المناخ العربي: النكد التعس الذي كان سائدا: إبّان انعقاد قمة الكويت. وقد كان من العسير أن تنعقد قمة كاملة وأن تنجح في مثل هذا المناخ النحس الذي يوحي كل شيء فيه بسوء الظن والتربص والتخذيل والخيبة والفشل.

وبغتة تراجعت غيوم هذا المناخ وسوافيه وصواعقه تراجعا ملحوظا.

من كان ـ بعد الله تعالى ـ وراء هذا النجاح النسبي في الشأن العربي العام؟ كان وراءه ـ بتوفيق الله جل ثناؤه ـ رجل اسمه عبد الله بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية.

ففي تلك القمة حرك الملك عبد الله الركود العربي السياسي العام: بكلمة (مباغتة) أذهلت الجميع بالتوكيد، وأفرحت الكثيرين فيما نحسب ونقدر.. ومن الفقرات المضيئة في تلك الكلمة: «يجب أن أكون صريحا صادقا مع نفسي ومعكم فأقول: إن خلافاتنا السياسية أدت إلى فرقتنا وانقساماتنا وشتات أمرنا، وما زالت هذه الخلافات عونا للعدو الإسرائيلي الغادر، ولكل من يريد شق الصف العربي لتحقيق أهدافه الإقليمية على حساب وحدتنا وعزتنا وآمالنا.. إننا قادة الأمة العربية مسؤولون جميعا عن الوهن الذي أصاب وحدة موقفنا، وعن الضعف الذي هدد تضامننا.. أقول هذا ولا أستثني أحدا منا.. أناشدكم ونفسي أن نكون أكبر من جراحنا، وأن نسمو على خلافاتنا، وأن نهزم ظنون أعدائنا، وأن نقف موقفا مشرفا يذكرنا به التاريخ، وتفخر به أمتنا.. ومن هنا اسمحوا لي أن أعلن باسمنا جميعا أننا تجاوزنا مرحلة الخلاف، وفتحنا أبواب الأخوة العربية، والوحدة العربية لكل العرب دون استثناء ولا تحفظ، وأننا سنواجه المستقبل ـ بإذن الله ـ نابذين خلافاتنا، صفا واحدا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا مستشهدين بقول الله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)».

هذه الكلمة الأصيلة الصريحة البناءة لم يلقها الملك عبد الله لينساها من بعد، وإنما ألقاها لكي يعمل بمقتضاها في مقبل الأيام.

وقد فعل.

فهذه الكلمة هيأت مناخا جيدا لقمة الدوحة) الشاملة)، وبهذه الروح وهذه المفاهيم تحرك الملك عبد الله لإنجاح قمة الدوحة. ثم هاهو يزور دمشق ليلتقي بأخيه الرئيس السوري بشار الأسد، ليصدق ـ بالفعل والحركة والقرار والموقف ـ ما قاله في قمة الكويت «نعلن أننا تجاوزنا مرحلة الخلاف، وفتحنا أبواب الوحدة والأخوة، لكي نواجه المستقبل صفا واحدا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا».

ألم نقل: إن الصادقين يقولون الكلمة بنية تطبيقها والتزامها، ولا يقولونها لكي يتملصوا منها أو ينسوها؟

والقمة السعودية ـ السورية هي (قمة فوق عادية) من حيث وزن البلدين والقيادتين، ومن حيث مراهنات الأعداء على (دوام) الخلافات العربية ـ ولا سيما بين الدول العربية الأثقل وزنا ـ، ونظرا لمجموعة الظروف والوقائع والصعاب التي تواجه الأمة اليوم.. فهذه القمة تنعقد بينما (العين السياسية) تحدق أو ينبغي أن تحدق:

1ـ في واقع عربي مثقل بالأزمات المتفجرة.. وإلا كيف يمكن ـ موضوعيا ـ وصف الواقع في الصومال والسودان والعراق وفلسطين واليمن؟.. إنه ـ بصراحة ـ واقع (متفجر) ـ بالمعنى السياسي والأمني للكلمة ـ.. وخطر تمزيق العرب وتفتيتهم هو خطر تعدى (الشأن القومي العام) إلى (الحالة الوطنية الخاصة)، أي أنه بعد تمزيق الصف العربي ـ على المستوى القومي ـ: دارت ماكينة التمزيق داخل كل قطر (حدّقوا في أحوال البلدان العربية المذكورة آنفا).

وليس من الأمن الاستراتيجي لأي دولة عربية: الظن أو التوهم بأن كيد (التفتيت الوطني) سينحصر في النماذج الخمسة السابقة، وإنما هي مراحل متدرجة في الهدم والتفتيت، ومن لديه برهان على (عصمة) أي قطر عربي من محاولات التفتيت فليخرجه لنا.

وفي هذا السياق يتوجب تركيز النقد على (الذات) ـ دون إهمال بليد للعوامل الخارجية المؤكدة ـ.. مثلا: تَنادَى العالم وتواصى، أو تواصى عدد راجح من ممثليه في لجنة حقوق الإنسان ـ التابعة للأمم المتحدة ـ تواصوا على إحقاق الحق وإبطال الباطل من خلال تقرير دولي يدين إسرائيل بجرائم (حرب إبادة) في عدوانها على غزة.. وبينما أحرار العالم وعقلاؤه (يجاهدون) لنصرة الفلسطينيين، إذا بفريق فلسطيني يخذل هؤلاء الأحرار الشرفاء ويطالب بسحب التقرير من جلسة التصويت عليه فتحقق ـ من ثم ـ المثل الذي يقول: (جاء الأصدقاء لتهنئة أهل العرس، وليفرحوا معهم فسارع أهل العرس بالهرب بعد أن أطفأوا الأنوار وعبسوا في وجوه المدعوين)!!

إن المعلومة الموثقة تقول: إن السلطة الفلسطينية هي التي طالبت بسحب التقرير الإنساني المنصف.. وبهذا السلوك المجنون والشاذ خذل الفلسطينيون ـ أو فريق منهم ـ قضيتهم بأنفسهم! وبهذا فتحت السلطة على نفسها باب اتهامها بأنها فعلت ذلك بسبب أنها هي شريك للعدو في (حرب العدوان والإبادة)!! بمعنى أنها اتخذت هذا الموقف لئلا تنكشف شراكتها في الإبادة.. والتهمة قاصمة مفزعة بلا شك، ولكن من دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل.. والعبرة من هذا الموقف الغريب المريب: سقوط شعار: (نريد ما يريده الفلسطينيون) بإطلاق. فسحب التقرير: موقف لم يرده، ولم يوافق عليه أحد من العرب، ولا من أحرار الضمائر الذين كانوا وراء التقرير.

2ـ وتحدق العين السياسية في عدو صمم على عداوة السلام، وعلى الاستمرار في الاحتلال والمحاصرة والاعتقال والاغتيال وتهويد مقدسات المسلمين.. ومن أسباب موقفه الأعمى هذا: هو أن العرب وسوء تقديرهم الاستراتيجي والسياسي والأمني لأحوال المنطقة والعالم، ومن ثم عجزهم عن استثمار وزنهم العددي وأوراقهم المختلفة في بناء موقف قوي مشترك ضد عدو مشترك.. مثال ذلك: الموقف العربي العام (المائع) من التطبيع مع العدو.. ولولا الموقف السعودي الصلب والثابت في هذا الميدان لرأينا هذه المقاطعة تنهار. وهذه حقيقة وثقتها إحصاءات وزارة التجارة الأمريكية التي بينت: أن المقاطعة السعودية للشركات المتعاملة مع إسرائيل قد تزايدت حتى وصلت إلى 74% عام 2008، كما أنها حقيقة وثقتها صحيفة (جورزليم بوست) الإسرائيلية.. وهذا موقف سعودي حق وعاقل، إذ كيف يجري التطبيع مع (كيان غير طبيعي) في أيدلوجيته وأطماعه وتصرفاته كلها؟!.. (ولعل موقفا عربيا جماعيا حازما ناجزا ضد العدو في قضية القدس، لعل ذلك يكبت غروره).

3ـ ثم تحدق العين السياسية في إقليم موّار بالتغيرات والتبدلات، ومن أبرزها: التغير الكبير في العلاقة بين إيران والغرب.. وهذا تغير إذ يتطلب قراءة سياسية ذكية في مجمله من الجانب العربي، فإنه يتطلب ـ من الجانب الإيراني ـ قراءة بعيدة النظر أيضا، بمعنى ألا تنتشي إيران أكثر من اللازم بهذا التغير. فجيرانها هم الأدوم في المنطقة.. ثم إن في تجربة اعتماد الشاه على الغرب، وانتشائه بذلك، ونهايته المرة في تخلي الغرب عنه: إن في ذلك كله: درسا سياسيا واستراتيجيا مفيدا للنظام الإيراني.