اختبار «عقيدة أوباما»

TT

هل هناك ما يمكن وصفه بـ«عقيدة أوباما» وراء الالتفافات والمواربات التي اتسمت بها السياسة الخارجية للرئيس على مدار الأشهر التسعة الماضية؟ أعتقد أن هذا قائم بالفعل في إشارته المتكررة للحقوق والواجبات العالمية. إلا أن المشكلة تكمن في أن إطار العمل الذي صاغه على غرار ما عهدناه في أوساط المحامين لم يجر تطبيقه على أي من المشكلات العسيرة، مثل ما ينبغي فعله في أفغانستان.

لقد عكفت على البحث عن «عقيدة» محددة وراء سياسات أوباما انطلاقا من اعتقادي بأن الفكر الاستراتيجي يعد نقطة ضعف هذه الإدارة. إن الرئيس البراغماتي حرص على إحاطة نفسه بمستشارين براغماتيين ـ مثل اختياره جنرال مشاة البحرية المتقاعد لمنصب مستشار الأمن القومي، وسيناتور سابقا لمنصب وزيرة خارجية، وضابط استخبارات ليكون وزير الدفاع. لكن لا يوجد في صفوف الإدارة مفكرون استراتيجيون على غرار هنري كيسنغر أو زبيغنيو بريزنسكي.

وعند مراجعة الخطابات الكبرى التي ألقاها باراك أوباما، اكتشفت وجود فكرة محددة يعمد إلى الإشارة إليها باستمرار. على سبيل المثال، في خطاب تنصيبه رئيسا، قال: «إن المطلوب منا الآن بداية حقبة جديدة تتميز بالتحلي بالمسؤولية». وأوضح أن هذا الأمر يقوم على التبادل، بمعنى «مصالح متبادلة واحترام متبادل»، هكذا وصف أوباما الفكرة في أحد أيام يناير (كانون الثاني) الباردة. وغالبا ما عاود أوباما ذكر هذه الفكرة.

من وجهة نظري، تعد هذه الفكرة القائمة على تحقيق توازن بين الحقوق والمسؤوليات العماد الرئيس لسياسة أوباما الخارجية. وعليه، ترى هذه السياسة أن لإيران حق استغلال الطاقة النووية السلمية، لكنها تتحمل مسؤولية الالتزام بمعاهدة حظر الانتشار النووي. وبالمثل، تحظى إسرائيل بحق العيش في سلام، لكن عليها مسؤولية الامتناع عن بناء مستوطنات، التي يرفضها أوباما باعتبارها غير شرعية.

في الواقع، حثني على قراءة خطابات أوباما مسؤول بالإدارة يعتقد أن الصحافيين غفلوا فكرة عامة ذكرتها هذه الخطابات بوضوح. وبالفعل، وجدت هذه الفكرة تتكرر باستمرار في خطابات الرئيس. بيد أن هذه الفكرة تتسم بطبيعة جافة، حيث تقوم على تصوير للعلاقات الدولية كهيكل ثابت من القواعد والمبادئ، مما يعد جزءا من ضعف هذه الإدارة في تناولها لقضايا مفعمة بالدماء والعاطفة. ومجددا، تعد أفغانستان نموذجا جليا في هذا الإطار.

طبقا لوجهة النظر التي يطرحها أوباما، استعادت أميركا سلطتها بعودتها إلى إطار العمل العالمي الذي سبق أن نبذته إدارة بوش. وقد ذكر أوباما هذا صراحة في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 سبتمبر (أيلول). خلال الخطاب، تحدث أوباما عن كيف أن الولايات المتحدة «عاودت التعاون» مع العالم عبر تناول قضايا «أثارت مشاعر عداء ضد الولايات المتحدة على نحو شبه تلقائي». وعدد أوباما القرارات التي اتخذها: حظر التعذيب، وإصدار أوامر بإغلاق معسكر غوانتانامو، والانسحاب من العراق، والدخول في مفاوضات بشأن التغيرات المناخية، بل وسداد الأموال التي تدين بها واشنطن للأمم المتحدة.

دارت رسالة أوباما الضمنية حول عبارة «الآن، حان دوركم». بالنسبة للدول التي تتحدى الأعراف الدولية (في إشارة لإيران وكوريا الشمالية)، حذر أوباما من فرض العزلة عليها، بقوله: «تلك الدول التي تأبى الارتقاء لمستوى واجباتها (كدول موقعة على معاهدة حظر الانتشار النووي) يجب أن تواجه عواقب».

ويمكن معاينة لغة مشابهة تقريبا في جميع الخطابات الكبرى التي ألقاها أوباما. في الخطاب الذي ألقاه في القاهرة في 4 يونيو (حزيران)، تحدث عن «واجبات» إسرائيلية وفلسطينية في ظل اتفاقات دولية موقعة. وخلال خطاب أدلى به في أكرا، عاصمة غانا، في 11 يوليو (تموز)، أخبر الأفارقة بأن الشراكة مع الولايات المتحدة «يجب أن تكون قائمة على المسؤولية المتبادلة والاحترام المتبادل». عندما كشف النقاب عن منشأة تخصيب نووية سرية في إيران في 25 سبتمبر (أيلول)، انتقد أوباما إيران بشدة «لرفضها الارتقاء لمستوى مسؤولياتها الدولية».

تجسد مثل هذه الرؤية لحكم القانون العالمي أسلوب تفكير أوباما، المتميز بالتفاؤل والعقلانية والعملية. لكن مثلما الحال مع شعار «التغيير» الذي ساعده على الفوز بالرئاسة، تبقى هذه الرؤية وعاء فارغا في انتظار ملئه بالتفاصيل العملية من واقع الحياة والتجربة. تلك ليست باستراتيجية، وإنما صيغة عامة لكيفية حل المشكلات، الأمر الذي يختلف كلية عن تولي قيادة عالمية.

الملاحظ أن أوباما لم يطبق هذه العقيدة مباشرة على أفغانستان، لكن دعوني أحاول هذا الأمر بإيجاز: المجتمع الدولي أعلن التزامه، عبر الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بالمساعدة في إعادة بناء أفغانستان. وتتسم هذه المهمة بطابع محدود، لكنها تحمل في طياتها مسؤوليات مستمرة. من بين هذه المسؤوليات تدريب الجيش الأفغاني وتعزيز الأمن بالبلاد ودعم التنمية الاقتصادية وتحسين مستوى الحكم والتشجيع على المصالحة السياسية الأفغانية.

وبذلك نجد أن فكرة تخلي واشنطن عن هذه المهمة من خلال تركيزها على استراتيجية أنانية لمكافحة الإرهاب وهجر جهود إعادة البناء والسعي لاغتيال أعدائها باستخدام طائرات من على ارتفاع 10.000 قدم لا يتوافق مع قراءتي لعقيدة أوباما. موجز القول إن هذا التوجه سيأتي مخالفا للقانون.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»