المحافظون يراهنون بورقة الصراحة

TT

انفض موسم المؤتمرات السنوية للأحزاب البريطانية الأربعاء في مدينة مانشستر، التي انطلقت منها ابتكارات الثورة الصناعية قبل قرنين، بخطاب زعيم حزب المحافظين المعارض دافيد كاميرون، والذي تشير الاستطلاعات إلى أنه سيكون رئيس الوزراء القادم، ربما ليس لأنه أفضل سياسي في بريطانيا، وإنما لأن استطلاعات الرأي تشير إلى أن حزب العمال الحاكم سيمنى بهزيمة تاريخية، وتقليديا تذهب أكثرية المقاعد التي يفقدها العمال إلى المعارضة المحافظة ما لم تحدث مفاجآت غير متوقعة.

والخطاب كان كشحنة إيجابية لأعضاء الحزب ونشطائه بالنزول للناخب لأن النتائج لا تزال غير مضمونة بسبب عدم وضوح موقف الصحافة باستثناء إعلام اليسار (البي بي سي، والتلفزيون 4؛ والغارديان والإندبندنت والديلي ميرور) الذي سيروج دعاية العمال.

الصحافة أحدثت ثورة سياسية أطاحت برئيس البرلمان بعد كشف الديلي تلغراف الأكثر انتشارا بين الصحف الرصينة فضيحة مغالاة نواب مجلس العموم في المصاريف وبدلات السفر بشكل اعتبره الناخب إهدارا، إن لم يكن سرقة لضرائبه، وربما يدير الناخب ظهره للعملية الانتخابية. ومقاطعة الناس لصناديق الاقتراع، قد تؤدي إلى نجاح عدد غير بسيط من الفاشيست والنازيين بأغلبية أصوات قليلة، أو برلمان معلق يضطر الساسة لتكوين حكومة ائتلافية عقيمة (كما حدث في انتخابات 1974).

حظ المحافظين على الأرجح أوفر هذه المرة بسبب اكتمال صفوفهم ووضوح برنامجهم، ونجاح كل وزير ظل في توصيل رسالته أمام الخطاب الذي ألقاه في المؤتمر.

الناخب يريد أن يعرف من بين وزراء الظل سياسة حاملي أهم ثلاث حقائب (بعد رئيس الوزراء)، وهي وزارة المالية، ثم وزارة الداخلية، ثم وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية، بينما تأتي وزارات كالحربية أو الخارجية في مرتبة أقل من وزارات الصحة والمعارف والمواصلات والزراعة والبيئة؛ لأن الأخيرة مسؤولة عما يمس حياته اليومية. ولا يهمه من شؤون وزارة الدفاع إلا ميزانيتها التي سيجن جنونه إذا اكتشف أنها أكبر من ميزانية الصحة؛ رغم أن البلاد في حالة حرب في أفغانستان والجيش في مهام للأمم المتحدة في 14 بقعة أخرى من العالم.

فالناخب يفضل هزيمة عسكرية في الخارج على إنقاص ميزانية مستشفاه أو مدرسة الأولاد.

ورغم أهمية خطاب كاميرون الأخير لتحديد ملامح السياسة التي يريدها للبلاد إذا دخل 10 داوننغ ستريت، فإن خطاب وزير مالية الظل، جورج أوزبورن الثلاثاء، فاقه أهمية وجاء تاريخيا وغير مسبوق.

وزير المالية هو ثاني أقوى منصب بعد رئيس الوزراء في بريطانيا.

ووزير مالية الظل أهم عند الناخب من زعيم الحزب (أي رئيس الوزراء القادم)، حيث تتابع الصحافة كل كلمة يقولها حتى ولو في حفل عشاء. لأن في رأسه الخطة المالية وتمكنه، عبر الصحافة، من إقناع الناخب بها سيضمن نجاح الحزب في الانتخابات.

ليس من المألوف أن يعد وزير مالية حزب معارض يخوض الانتخابات بشد أحزمة الناخبين على بطونهم إذا لم يشدوها بأنفسهم، ويعد بزيادة الضرائب وإنقاص ميزانية الخدمات وتجميد علاوات كبار موظفي الحكومة وإنقاص مرتبات الوزراء ورئيسهم ورفع سن التقاعد ويهدد البنوك بالحد من الحوافز التي تدفع بسماسرة المال للمقامرة بالمليارات طمعا في هذه الحوافز.

والخطاب كان ميزانية واضحة بالتفاصيل عن نسب الضرائب والإنفاق وتوقعات معدلات النمو، كبديل أفضل لميزانية الحكومة.

اندهشنا في منصة الصحفيين. فأوزبورن يراهن على الطبقات المتوسطة من الشعب بضرورة التقشف ونقص الخدمات بسبب مديونية الحكومة (تريليونين أي ألفي مليار دولار) دفعتها حكومة العمال للبنوك لإنقاذها من الإفلاس.

توجه أوزبورن إلى الطبقة المتوسطة المثقفة التي تناقش على مائدة العشاء أو الإفطار الموقف المالي للمفاضلة بين العمال والمحافظين لمنح الأصوات.

وهو يعرف أن رهانه على الطبقات العاملة (مجازا فالبطالة منتشرة بينهم) خاسر. الاستثناء هو «العامل الحر» أي غير الموظف براتب في مؤسسة، ومعظم هؤلاء، خاصة الذين تعلموا حرفهم كصبيان على يد الأب أو الأسطى، تدفعهم غريزة الفردية المالية لإدراك دعم المحافظين لأمثاله. أما حزب العمال فسياسته تفاضل عليهم العاملين الموظفين في القطاع العام، واتحادات نقابات العمال في القطاع الخاص، ويضمنون أصواتهم، وبالتالي فهم في عداد المفقودين في حساب المحافظين.

وما يساعد أوزبورن على كسب أصوات «العامل الحر» هو رفع صحيفة الصن ذات التوزيع الأكبر بين الطبقات الشعبية رايتها على سفينة المحافظين.

الطبقة المتوسطة مما يسمى بيمين الوسط، كانت تقليديا مع المحافظين أو الأحرار حتى غيّر توني بلير في منتصف التسعينات سياسة العمال الاقتصادية لتوافق مزاجهم فانحازوا للبليرية. لكن العمال في مؤتمرهم الأسبوع الماضي، صوبوا قذائفهم الضرائبية ضد الطبقة المتوسطة لتحويل ما ينهب منها إلى دعم العاطلين، عائدين للسياسة الاشتراكية أو ما أسميناه ما قبل البليرية، باستمرار تدلية جزرة الاعتماد على دعم الدولة أمام الطبقات الشعبية والمهاجرين.

فالعمال بزعامة غوردن براون يدركون في قرارة أنفسهم بخسارة الانتخابات لا محالة، ويخشون من أن شكوك الطبقات العاملة من السكان الأصليين البيض في السياسة البليرية قد تؤدي إلى تصويت كثير منهم للحزب القومي البريطاني الفاشيستي الذي يعد بالتخلص من المهاجرين، مثلما حدث في الانتخابات البلدية هذا العام في دوائر تشكو الطبقات العاملة فيها من مزاحمة المهاجرين لأرزاقهم.

واليوم يقلد أوزبورن وكاميرون زعيم العمال السابق بلير، بتفصيل ساسة على المقاس المزاجي لهذه الطبقات مع إشراكهم في خطة علاج الأزمة الاقتصادية.

والرهان غير مضمون لأنه يعد بزيادة الضرائب لا إنقاصها، وما شجعه على الصراحة هو استطلاعات الرأي الداعمة للمحافظين.

الورقة الأخرى، هي صراحته كوزير مالية متوقع للحكومة القادمة، مع الناخب، فلا يعده بما لا يستطيع تنفيذه، أي يتهم، بشكل غير مباشر العماليين بالكذب على الشعب، خاصة أن العمال تراجعوا في الوعد بإجراء الاستفتاء على الدستور الأوروبي بعد أن ألبسوا الدستور ملابس معاهدة لشبونة.

أول اختبار لرهان أوزبورن كانت محاولة اليسار تحريف برنامجه ليخيف النساء العاملات (40% من القوى العاملة، 43% من الناخبين) بادعاء البي بي سي أنه «سيجبر النساء على العمل ثلاث سنوات إضافية حتى سن 66 لبدء تقاضي المعاش من الدولة».

صحفيون مستقلون كشفوا مناورة البي بي سي التي تجاهلت سياسة العمال برفع سن تقاعد النساء إلى 65 أي سنة واحدة لا ثلاث في برنامج تقشف أوزبورن.

ولو ظلت الصحافة المحايدة، متيقظة لمناورات ترسانة اليسار الإعلامية، فمن المتوقع أن يكسب أوزبورن الرهان ويجلس إلى مكتب وزير المالية في 11 داوننغ ستريت.