العلاقات العربية الصينية في 60 عاما

TT

تحتفل جمهورية الصين الشعبية هذه الأيام بالذكرى الستين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، وتصادف هذه الذكرى المهمة أيضا مرور ستين عاما على إقامة العلاقات الصينية العربية، وهي ذكرى عزيزة على كل المهتمين بالعلاقات الصينية العربية والحريصين على تطورها وازدهارها، وسنحاول في هذا المقال الذي خصصناه لهذه المناسبة المهمة أن نتتبع العلاقات بين الأمتين الصديقتين خلال هذه الفترة الطويلة متطرقين إلى محطاتها الرئيسية والمهمة منذ أكتوبر 1949م وحتى يومنا هذا، مستشرفين مستقبلها والتحديات التي تواجهها.

في حقيقة الأمر تشير كثير من الدراسات التي صدرت داخل وخارج الصين ومذكرات بعض المفكرين والسياسيين الصينيين ووثائق الحزب الشيوعي الصيني إلى اهتمام مبكر للصين بالعالم العربي، وذلك منذ تأسيس الحزب الشيوعي الصيني 1922م.. فبعد شهور قليلة من تأسيس الحزب الشيوعي الصيني بدأ قادته يتلمسون استراتيجية حزبهم الأممية الجديدة والتعرف على العالم الخارجي، حيث تشير أدبيات الحزب خلال الفترة من 1930م ـ 1949م إلى اهتمام مبكر بالمنطقة العربية، حيث نبه ماو إلى أن المنطقة العربية مسرح للصدام بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، مضيفا أن «سيطرة أي قوة معادية على منطقة الشرق الأوسط ستحدد مصير العالم وكذلك مستقبل الصين كبلد مستقل».

وبنهاية الأربعينات وبداية الخمسينات أصبحت نظرية ماو حجر الزاوية في سياسة الصين في الشرق الأوسط. وبالرغم من أن تغيرات كثيرة قد طرأت في سياسة الصين تجاه هذه المنطقة فإن صدى نظرية ماو تجاه الشرق الأوسط لا يزال يسمع هنا وهناك، هذا في وقت كانت فيه القوة الشعبية في العالم العربي تتابع وتدعم النضال البطولي للشعب الصيني نحو الانعتاق والتحرر، وتابعت هذه القوة بتعاطف كبير النضال ضد الغزو الياباني للصين والمسيرة الكبرى، وتشير الوثائق إلى ذلك الاستقبال الرسمي والشعبي الحار الذي لقيه وفد صيني بقيادة الحاج عيسى ماوو لنغ زار عددا من الدول العربية خلال الفترة من ديسمبر 1937م ـ يونيو 1940م، وقد جاء الوفد لحشد تأييد ودعم الشعوب والحكومات العربية لنضال الشعب الصيني في مواجهة الغزو الياباني.. وقد حصل الوفد الصيني على دعم عربي رسمي من مصر والمملكة العربية السعودية وغيرهما من الدول العربية التي زارها، ودعما شعبيا تمثل في مقاطعة الشعوب العربية للبضائع اليابانية كشكل من أشكال التضامن العربي مع الشعب الصيني، بل إن مصر الرسمية تضامنا مع القوة الوطنية والديمقراطية في الصين أوقفت تصديرها للقطن المصري طويل التيلة لليابان، وذلك عام 1938م، وكانت مصر في تلك الفترة تصدر 60% من قطنها لليابان.

وكان أول اتصال مباشر بين العرب والصينيين على مستوى رفيع قد تم إبان مؤتمر باندونغ أبريل 1955م، حيث تفاجأ العرب بدعم صيني غير محدود لقضايا النضال العربي في فلسطين والمغرب العربي والشام، ففي باندونغ أعلنت الصين بوضوح دعمها لكل حركات التحرر العربية، واستعدادها اللامحدود لدعم هذه الحركات عسكريا وإعلاميا. والتزاما بمقررات مؤتمر باندونغ الداعية إلى تعزيز العلاقات التجارية والسياسية بين الصين والدول العربية أرسلت الصين مباشرة بعد هذا المؤتمر المهم عددا من الوفود الثقافية والتجارية إلى كل من السودان ومصر وسوريا والعراق والمغرب والسعودية. وسرعان ما بدأت الدول العربية في الاستجابة لنداءات شعوبها واعترفت كل من مصر واليمن وسوريا في عام 1956م بالجمهورية الشعبية في الصين، تبعتها بعد ذلك كل من المغرب والسودان وغيرهما، وذلك رغم الضغوط الغربية على هذه الدول.

والدول العربية كانت من الدول التي اعترفت بجمهورية الصين الشعبية منذ وقت مبكر في عام 1956، حيث أقامت في ذلك الوقت كل من مصر وسوريا واليمن علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية. وتبعتها بعد ذلك دول عربية أخرى مثل العراق والمغرب والسودان وغيرها، ليكتمل التمثيل الدبلوماسي العربي مع الصين في عام 1990 وذلك بقيام علاقات دبلوماسية كاملة مع المملكة العربية السعودية. لقد ساهمت الصين خلال الخمسين عاما الأخيرة في التنمية في الدول العربية، حيث قدمت القروض والمنح لبناء الطرق وتشييد الجسور والسدود، وأسست لصناعة النسيج في عدد من الدول العربية. إذ ما من دولة عربية لم تقدم لها الصين الدعم الاقتصادي أو السياسي في مرحلة ما. كما أن الصين خلال الخمسين عاما الماضية التزمت بدفع مسيرة التنمية في العالم العربي.

على الصعيد السياسي دعمت الصين القضايا العربية الرئيسية، مثل القضية الفلسطينية والنضال الجزائري ونضال الشعب التونسي. كما أن الدول العربية هي الأخرى قدمت دعما سياسيا ثمينا للصين في المحافل الدولية وساهمت بنشاط في معركة الصين لاسترداد مقعدها في الأمم المتحدة، كما شاركت بنشاط في حصار تايوان دوليا وفتحت أسواقها أمام المنتجات الصينية.

أما وثيقة الاتفاقية الإطارية للتعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والفني بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجمهورية الصين الشعبية فتضم أيضا عددا من المواد، حيث تدعو المادة الأولى إلى تشجيع التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والفني في المجالات المختلفة، وتشجيع تبادل المعرفة والخبرات الفنية اللازمة في تلك المجالات. وتبحث المادة الثانية في السبل والوسائل الملموسة لتوسعة وتحرير علاقاتهما التجارية، آخذين في الحسبان التزاماتهما الدولية ومبادئ وأحكام منظمة التجارة العالمية. بما في ذلك إجراء مفاوضات لإبرام اتفاقية تجارة حرة بينهما.

كما أن هناك مفهوما يسيطر على أذهان الكثير من الكوادر الصينية، ربما أفرزه النفوذ التجاري الدولي الصيني الضخم، وهو سيطرة عقلية الربح على الكثير من الكوادر الوسيطة المنوط بها تطوير العلاقات العربية الصينية. فبالرغم من الحديث المستمر حول حرص الصين على تنشيط استيرادها من الدول العربية وتنشيط العلاقات التجارية (جنوب ـ جنوب)، فإننا نجد أن مسؤولين من المغرب، وهي دولة تحظى تاريخيا بعلاقات جيدة مع الصين، يشتكون من أن الصين تفضل شراء الفوسفات من الولايات المتحدة بدلا عن المغرب، بدعوى أفضلية الأسعار في الولايات المتحدة. كما يشتكون من العراقيل التي تضعها الصين أمام دخول الموالح المغربية.

إن على الصين أن تفتح أسواقها بأفضلية خاصة لمنتجات الدول العربية، بل وتشجع دخول هذا المنتجات إلى أسواقها، وترفع القيود الجمركية عنها وتسهل انسيابها إلى أسواقها لتشعر الدول النامية بخصوصية العلاقات مع الصين ولتصبح شعارات الصين لدعم دول الجنوب حقيقة ملموسة. كما أن عليها أن تساهم بحق في إنجاح تجربة المناطق العربية الحرة في مصر والسودان واليمن وغيرها من المناطق.

وبالرغم من أن العلاقات مع الصين تبدو مختلفة من حيث نوعها وطبيعتها عن العلاقات مع اليابان بحكم الإرث التاريخي والنضالي المشترك بين الأمتين العربية والصينية، إلا أن هذا الخوف لا يزال مشروعا، وبالرغم من أن خطة عمل المنتدى أشارت إلى أهمية نقل التكنولوجيا الصينية إلى الدول العربية فإنني أعتقد أن التصور العام لخطة العمل بالرغم من أهميته فإنه يحتاج إلى بناء آليات منفصلة تضمن تفعيل وإنزال الأفكار الكبيرة المضمنة في برنامج العمل إلى أرض الواقع. فعلى سبيل المثال نقترح إنشاء آليات محددة مثل آلية التعاون الصيني ـ العربي في قطاع الزراعة، آلية في قطاع نقل التكنولوجيا، آلية للنفط، آلية للغاز، آلية للتعاون في قطاع البتروكيماويات.. إلخ.

بالرغم من أن الواقع القائم حاليا لا يعكس بأي حال من الأحوال الإمكانيات والفرص المتوافرة في بنية العلاقات العربية ـ الصينية، فإنني ممتلئ بالتفاؤل لمستقبل هذه العلاقات، لأن ضرورات مواجهة الوضع الاقتصادي والسياسي الدولي المعقد ستجبر الطرفين على الاقتراب من بعضهما البعض. إن الشراكة العربية ـ الصينية بالفعل لا تستهدف في النهاية أحدا، ولا تعني التضحية بمصالح وعلاقات الصين والدول العربية بالكتل الأخرى، لكنها تهدف إلى خلق فضاء جديد وتعاون يساهم في التنمية المشتركة وفي استقرار العالم وسلامه. ويبقى في تقديري أن إنزال وثائق المنتدى والاتفاقيات مع دول الخليج العربية إلى أرض الواقع مرتهن بإرادة سياسية لدى الطرفين واختيار كادر يمتلك رؤية سديدة ومؤمن بالشراكة بين الأمتين الصديقتين.

* أستاذ مشارك في جامعة الدراسات الأجنبية ـ شنغهاي