أفغانستان وإمكانات النظام العالمي

TT

يأتي طلب قائد القوات الأميركية في أفغانستان الجنرال ستانلي ماكريستال، بتوفير قوات إضافية هناك ليضع الرئيس باراك أوباما في مواجهة معضلة قاسية؛ إذا رفض التوصية وحجة جنرال ماكريستال بأن قواته غير مناسبة للاضطلاع بالمهمة، فسيتعرض للوم عن العواقب الدراماتيكية المترتبة على ذلك. وإذا قبلها، فإن خصومه قد يصفون الحرب، على الأقل في جزء منها، بأنها حرب أوباما. أما إذا حاول التوصل إلى حل وسط فإن الحال قد ينتهي به إلى إرسال عدد من الجنود ضئيل للغاية بما لا يكفي لإحراز تقدم، وفي الوقت ذاته يبدو كبيرا للغاية بما يثير الجدال. في كل الأحوال، يتحتم على أوباما حسم اختياره على أساس تقديرات من المتعذر إثبات صحتها.

يشكل ما سبق المعضلة المؤلمة التي تعانيها الرئاسة الأميركية حاليا، والتي يستحق أوباما عنها مشاعر الاحترام من جميع أطراف الجدال. وكي أكون أمينا منذ البداية أعلن ميلي لتلبية طلب القائد العسكري وتعديل الاستراتيجية المتبعة حاليا في أفغانستان. لكنني آمل أيضا في أن يحرص الجدال الذي ينتظرنا على تجنب اتخاذ منحى مثبط للعزائم والهمم، مثلما كان الحال مع النقاشات السابقة التي اشتعلت أثناء حروب ضد أعدائنا المعتمدين على أساليب حرب العصابات، خاصة في فيتنام والعراق.

الملاحظ أن كلتا الحربين بدأتا بتأييد شعبي واسع. وبمرور الوقت، أصيبت كل منهما بحالة من الجمود، الأمر الذي يعود في جزء منه إلى انتهاج العدو استراتيجية حروب عصابات ترمي للاستنزاف النفسي. وأثارت حالة الجمود جدالا حول إمكانية إحراز النصر. في مثل تلك الفترات، يصاب قطاع كبير من الرأي العام بالصدمة إزاء الحرب، ويشرعون في إثارة التساؤلات حول الأساس الأخلاقي لها. وتزداد المطالب بوضع استراتيجية خروج مع التأكيد على أهمية فكرة الخروج ذاتها، وليس الاستراتيجية.

بطبيعة الحال، تعد المطالب بوضع استراتيجية للخروج مرادفا مجازيا للانسحاب، والمؤكد أن الانسحاب الذي لا يصاحبه استعداد لتحمل النتائج يرقى لمستوى التخلي عن ونبذ المسؤوليات. في فيتنام، أنهى الكونغرس دورا أميركيا حتى قبل أن تنسحب قواتنا، على أرض الواقع، بعامين. ولم يتضح بعد إلى أي مدى ستتمكن واشنطن من تعزيز الإنجازات التي حققها قرار زيادة أعداد القوات الأميركية في العراق على الصعيد السياسي.

في الواقع، الجزء الأوضح على الإطلاق من استراتيجية الخروج يكمن في إحراز النصر، على الرغم من أنه مثلما عاينا في كوريا، حيث ظلت القوات الأميركية هناك منذ عام 1953، لا يضمن دوما السماح بانسحاب القوات. وعليه، تنشأ معضلة يبدو من المتعذر تفاديها، ذلك أن الجدال الداخلي يخلق ضغوطا من أجل إقرار تسوية دبلوماسية، بينما لا يسمح التطرف المحرك للجماعات التي تشن حرب عصابات ـ ناهيك عن التفجيريين الانتحاريين ـ بالتوصل لتسوية إلا إذا واجهوا الهزيمة أو الإنهاك. ويحمل هذا الأمر بدوره ضمنيا اختبارا لقدرة الرأي العام الأميركي على الصبر. لكن هل من حل لهذه المعضلة؟

تقوم الاستراتيجية السائدة في أفغانستان على عقيدة كلاسيكية لمحاربة العصيان المسلح، مفادها بناء حكومة مركزية وإلزامها بتحسين حياة أبناء شعبها، ثم توفير الحماية لمواطنيها حتى تتمكن القوات الحكومية، بفضل جهودنا في مجال تدريبها، من الاضطلاع بهذه المسؤولية. يذكر أن طلب مزيد من القوات الذي تقدم به الجنرال ماكريستال ينص صراحة على أن القوات المتوافرة في الوقت الراهن غير مناسبة لإنجاز المهمة، ما يشير ضمنيا إلى ثلاثة خيارات: الاستمرار على مستوى النشر الحالي للقوات أو خفضه والتخلي عن استراتيجية ماكريستال، أو الإبقاء على مستوى النشر الراهن مع اتباع استراتيجية جديدة، أو زيادة أعداد القوات المنتشرة مع إقرار استراتيجية تركز على أمن السكان.

يتضمن قرار عدم زيادة أعداد القوات عن مستواها الحالي، على أدنى تقدير، التخلي عن الاستراتيجية التي اقترحها الجنرال ماكريستال وأيدها الجنرال بيتريوس. وسيجري تفسير هذا الأمر باعتباره خطوة أولى على طريق الانسحاب. أما الخيار الثاني ـ الذي يجري طرحه كبديل ـ فيتمثل في تقليص نطاق المهمة الحالية من خلال التركيز على واجبات مكافحة الإرهاب بدلا من محاربة التمرد. وتدور الحجة الداعمة لهذا الخيار حول أن الهدف الاستراتيجي الأميركي الأكبر في أفغانستان يكمن في الحيلولة دون تحول البلاد مجددا إلى قاعدة للإرهاب الدولي. وعليه، ينبغي أن تشكل هزيمة «القاعدة» والفكر الجهادي الإسلامي الراديكالي الأولوية الكبرى. نظرا لأن طالبان، طبقا لوجهة النظر تلك، تعد تهديدا محليا، وليس عالميا، فمن الممكن إقصاؤها لمرتبة هدف ثانوي. وربما تدخل واشنطن في مفاوضات مع الجماعة تضمن بمقتضاها فرض العزلة على «القاعدة»، ومن ثم هزيمتها، مقابل عدم التصدي لحكم طالبان في أفغانستان، خاصة أن طالبان هي التي أمدت «القاعدة» بقواعد في بداية الأمر.

بالنسبة لي، تنطوي هذه الفرضية على قدر مفرط من التحذلق، ذلك أنه من غير المحتمل أن تنفصل «القاعدة» وطالبان عن بعضهما بعضا بمثل هذه الدقة على الصعيد الجغرافي. إلى جانب ذلك، فإنها تشير ضمنيا إلى تقسيم أفغانستان على امتداد خطوط العمليات، نظرا لأنه من غير المحتمل، بدرجة بالغة النجاح، تنفيذ الإجراءات المدنية التي تقوم عليها سياساتنا في المناطق الخاضعة لسيطرة طالبان. وحتى الواقعيين المزعومين أمثالي سينفرون بشدة من إمكانية إقامة تعاون ضمني بين الولايات المتحدة وطالبان فيما يتعلق بحكم أفغانستان.

لا يعني ذلك استثناء احتمال حدوث انشقاق في صفوف طالبان، مثلما حدث مع «القاعدة» في العراق، تحديدا محافظة الأنبار. إلا أن هذه الانشقاقات وقعت في أعقاب زيادة أعداد القوات الأميركية، وليس كسبيل لتجنبها. وعليه، فإن مثل هذا النهج سيمثل أداة مقنعة للانسحاب من أفغانستان نهائيا.

الملاحظ أن المسؤولين الأعضاء في سلسلة القيادة في أفغانستان، والذي يتميز كل منهم بمؤهلات مبهرة، جرى تعيينهم جميعا منذ وقت قريب من جانب إدارة أوباما. ومن شأن رفض توصياتهم إحراز نصر للعوامل المرتبطة بالمشهد السياسي الداخلي على الأحكام الاستراتيجية. وسيجرنا ذلك إلى لعبة أرقام تخلو من قواعد واضحة.

يذكر أنه عندما كان مرشحا للرئاسة، أعلن الرئيس أوباما أن حرب أفغانستان ضرورية. وعندما تولى الرئاسة، أبدى أوباما شجاعة كبيرة في مساعيه للوفاء بوعده بزيادة أعداد القوات الأميركية في أفغانستان والعمل على شن الحرب بنشاط أكبر. ومن شأن إقرار تحول مفاجئ في مسار السياسة الأميركية ترك تأثيرات عميقة على الاستقرار الداخلي في باكستان من خلال منح قوات «القاعدة» على امتداد الحدود الأفغانية فرصة أكبر للتوغل بدرجة أكبر داخل الأراضي الباكستانية، ما ينذر باندلاع فوضى في البلاد. وسيثير هذا الأمر شكوكا بالغة حول ثبات الموقف الأميركي في المنطقة، خاصة أن انهيار أفغانستان سيمنح الحركة الجهادية زخما أكبر. موجز القول أن التحول في سياسة أقرتها إدارتان متعاقبتان بناء على رؤى كبرى في الاتجاه المعاكس ربما يسفر عن حالة من الفوضى، وربما يضطر واشنطن إلى التورط على نحو أكبر في المنطقة ويقوض الثقة في إمكانية الاعتماد على واشنطن. كما أن إمكانات النظام العالمي ستتأثر بشدة بما إذا كانت استراتيجيتنا الجديدة سيجري النظر إليها باعتبارها انسحابا من المنطقة أم سبيلا أكثر فاعلية للحفاظ على نفوذنا فيها.

في الوقت ذاته، تحتاج الاستراتيجية العسكرية التي اقترحها ماكريستال وبيتريوس إلى نطاق أوسع مع توجيه اهتمام خاص إلى البيئة السياسية. إن جميع حروب العصابات تثير تحديا يدور حول كيفية تحديد الأهداف العسكرية. من الناحية التقليدية، يجري تعريف الاستراتيجية العسكرية بأنها السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي. لكن استراتيجية حروب العصابات ـ حسبما يصفها ماو ـ هي اجتذاب الخصم إلى منطقة تعج بالمقاومة الشعبية يتحول في إطارها هدفه الرئيسي بمرور الوقت إلى الخروج منها. في فيتنام، غالبا ما كانت العصابات المسلحة تتنازل عن سيطرتها على منطقة ما خلال النهار لتعاود الظهور ليلا للحيلولة دون تحقيق استقرار سياسي. وعليه، في إطار حروب العصابات، تنطوي مسألة السيطرة على 75% من الأراضي على امتداد 100% من الوقت على أهمية أكبر من السيطرة على 100% من الأراضي طيلة 75% من الوقت. وعليه، فإن إحدى القضايا الاستراتيجية الكبرى أمام واشنطن في أفغانستان تتمثل في أي المناطق الأفغانية يمكن السيطرة عليها بفاعلية بناء على هذه المعايير.

يحمل هذا الأمر أهمية خاصة فيما يتعلق بأفغانستان، ذلك أنه لم تتمكن أي قوة خارجية، منذ الغزو المغولي للبلاد، من فرض الهدوء على أرجاء البلاد كافة. (يذكر أن الإسكندر الأكبر مر بالبلاد فحسب). الملاحظ أن أفغانستان خضعت لحكم ائتلاف من الحكام المحليين الإقطاعيين أو شبه الإقطاعيين. في الماضي، أي محاولة لمنح سلطات كبرى للحكومة المركزية لاقت مقاومة من جانب بعض الحكام الإقليميين ذوي النفوذ. ومن المحتمل أن يصبح ذلك مصير أي حكومة مركزية في كابل، بغض النظر عن توجهاتها الآيديولوجية، بل وربما فاعليتها. وستكون مفارقة إذا تسببنا عبر اتباعنا حرفيا الإرشادات المتعارف عليها لكيفية التصدي للتمرد في خلق دافع جديد لحرب أهلية. هل يمكن بناء مجتمع مدني داخل بلاد ليست بأمة ولا دولة؟

داخل مجتمع شبه إقطاعي ومتعدد العرقيات، يشكل الإصلاح الاجتماعي عملية طويلة الأمد، وربما قاسية بالنسبة لوتيرة العمليات الانتخابية في بلادنا. على امتداد المستقبل المنظور، ربما تظل السيطرة على كابل غير محكمة. وينبغي توجيه مزيد من الاهتمام إلى الجهود والميليشيات الإقليمية. ومن شأن ذلك تحسين مستوى المرونة السياسية الذي نتمتع به. وهناك حاجة لبذل جهود كبرى لتشجيع مثل هذا التطور.

في الوقت ذاته، تقتضي الحاجة بذل جهود دبلوماسية لتناول جانب تنفرد به الحرب الأفغانية. في جميع الصراعات البرية السابقة التي خاضتها الولايات المتحدة، بمجرد اتخاذ قرار بدء الحرب، لم يكن هناك بديل عن تولي واشنطن القيادة، ذلك أنه لم تتمتع أي دولة أخرى بمزيج الموارد والمصالح الوطنية الحيوية اللازمة لخوض الحرب وتبريرها مثل واشنطن. أما الجانب الخاص الذي تنفرد به أفغانستان فيكمن في أن لها جيرانا أو دولا قريبة قوية ـ باكستان والهند والصين وروسيا وإيران ـ الملاحظ أن كلا من هذه الدول يجابه تهديدا يرتبط بأفغانستان بصورة أو بأخرى، حيث تشعر باكستان بالتهديد من «القاعدة»، والهند من الحركة الجهادية بوجه عام، بجانب جماعات إرهابية محددة، والصين من الجهاديين الشيعة الأصوليين في شينغيانغ، وروسيا من التوترات في الجنوب المسلم، وحتى إيران من «طالبان» السنية الأصولية. وتتمتع كل من هذه الدول بقدرات كبيرة للدفاع عن مصالحها. وقد اختارت كل منها، حتى الآن، عدم التورط فيما يجري في أفغانستان.

من الممكن أن تساعد القمة التي اقترحتها وزيرة الخارجية للدول المجاورة (أو شبه المجاورة) لأفغانستان، إلى جانب الدول الحلفاء في حلف «الناتو»، في الشروع في تناول هذا الجانب الفريد للحرب الأفغانية. وينبغي أن تسعى هذه القمة للحصول على التزام دولي بـ«أفغانستان غير إرهابية»، مثلما جرى تحييد دول من قبل عبر اتفاق دولي عندما كانت لأوروبا الهيمنة على الشؤون العالمية.

قطعا، تتسم هذه المهمة بالتعقيد، لكن من شأن بذل جهود مشتركة على الأقل التخلص من الإغراءات قصيرة الأمد للاستفادة من إحراج الخصوم. ويمكن لهذه الجهود الاستفادة من الجانب الإيجابي المتمثل في أنه، بخلاف الحال مع فيتنام أو العراق، لا تحظى جماعات حروب العصابات بتأييد كبير. وربما تشكل هذه الجهود في نهاية الأمر السبيل لبناء حكومة وطنية فاعلة. أما إذا تعذر تحقيق تعاون، فإن الولايات المتحدة ربما لا تجد أمامها سوى إعادة دراسة خياراتها وتوجيه جهودها داخل أفغانستان نحو خدمة الأهداف المرتبطة مباشرة بالأخطار التي تتهدد الأمن الأميركي. وستقوم بذلك حينذاك ليس كمؤشر على تخليها عن أفغانستان، وإنما كقرار قائم على اعتبارات استراتيجية. لكن ما زال من السابق لأوانه التوصل إلى هذه النتيجة بناء على الدلائل الراهنة.

بالنسبة للمستقبل القريب، من الضروري تجنب اندلاع انقسامات داخلية حادة مجددا، وعقد النقاش المحتوم حول الخيارات المعقدة والصعبة التي تواجهها بلادنا.

*مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون ووزير الخارجية في عهدي الرئيسين نيكسون وجيرالد فورد.

* خاص بـ«الشرق الأوسط»