ماذا قالت الجماهير لقيادات رام الله؟

TT

من واجب كل مسؤول فلسطيني، أن يراقب رد الفعل الشعبي، العربي أولا ثم الفلسطيني، استنكارا لموقف السلطة الفلسطينية، الذي طلب وقف النقاش في جنيف حول تقرير ريتشارد غولدستون عن جريمة إسرائيل في غزة. لقد تحول كل بيت عربي، وكل بيت فلسطيني إلى خلية غضب، واحتجاج، ونقمة، وإدانة، ودعوة للعمل والتحرك المضاد. المضاد للسلطة الفلسطينية ونهجها التفاوضي.

رد الفعل الشعبي هذا، والعربي منه قبل الفلسطيني، يقول لكل مسؤول في السلطة في رام الله، إن الجماهير مستنفرة، ومتهيئة للتحرك، عندما يكون هناك استعداد للتراخي، أو للتراجع، أو للتنازل، في كل ما يخص القضايا الأساسية، أو المصالح الأساسية المرتبطة بقضية فلسطين. ويكفي أن ينظر المسؤول الفلسطيني حوله، مبتدئا من رد فعل حلفائه وأتباعه في رام الله، حتى يكتشف مدى الغضب، ومدى الاستعداد للتمرد المحيط به. فإذا خرج من هذه الدائرة التي هي دائرة نفوذه، إلى الدائرة الشعبية في الأردن مثلا، أو الدائرة الشعبية في مخيم اليرموك بدمشق، أو مخيم النيرب في حلب، لوجد أن دائرة الغضب أكبر وأكبر. وحين يترك المراقب بيوت المخيمات الفلسطينية، منتقلا إلى بيوت المواطنين العرب، سيفاجأ بأن رد الفعل العربي لا يقل غضبا أو شراسة عن رد الفعل الفلسطيني، وسيكتشف كم أن القضية الفلسطينية عميقة في النفوس، رغم كل المحاولات التي بذلت في السنوات الأخيرة لفك الارتباط بين القضية الفلسطينية والقضية العربية.

وإذا كان رد الفعل هذا قد برز في وجه موقف فلسطيني متراخ إزاء تقرير دولي يدين إسرائيل في حربها ضد غزة، ويدعو إلى محاكمة قادة إسرائيل بسبب ذلك، فكيف سيكون الحال لو أن مسؤولا فلسطينيا بادر إلى إعلان التخلي عن حق العودة مثلا، هذا الحق الذي يمثل حوالي 6 ملايين لاجئ فلسطيني منتشرين في العديد من أصقاع العالم؟ إن بوادر التخلي عن حق العودة في أوساط السلطة الفلسطينية قائمة وواضحة، ويعبر عنها الرئيس محمود عباس شخصيا حين يقول: إن معالجة قضية اللاجئين ستتم بثلاث طرق: عودة جزء من اللاجئين إلى إسرائيل. وعودة جزء آخر من اللاجئين إلى الوطن. ومنح من يتبقى من اللاجئين جوازات سفر تابعة لدولة رام الله تحل مشكلة اللاجئين مع الدول المضيفة لهم، أي مع العرب وليس مع إسرائيل. وحين يظهر أن هذا الكلام سيتحول إلى خطة عمل، وإلى اتفاق مع إسرائيل، وإلى بنود في معاهدة رسمية توقع، فمن المؤكد أن رد الفعل الشعبي الفلسطيني والعربي، على مثل هذه الجريمة الجديدة، سيكون أكبر من رد الفعل على التخلي عن تقرير غولدستون.

وكما تتجمع نذر العاصفة، فإن نذر العاصفة الفلسطينية، ضد قيادة متخاذلة، قد بدأت تتجمع. الموقف المتراخي من حق العودة، والذي حرك تشكيل لجان حق العودة في العالم كله، غيمة سوداء قاتمة تنذر بالعاصفة لمن لديه عيون تفحص وترى. والهبة الشعبية الفلسطينية والعربية الشاملة ضد التخلي عن تقرير غولدستون، غيمة ثانية سوداء قاتمة تنضم إلى الغيمة الأولى، وتنذر باقتراب العاصفة. وتلوح في الأفق غيوم أخرى، غيوم تقترب سريعا، وهي في اقترابها تكبر وتتضخم.

غيمة ثالثة ضخمة اسمها المستوطنات الإسرائيلية التي تقدم عليها إسرائيل بطريقة استفزازية، تتحدى فيها كل فلسطيني وكل عربي. وقد تخلت السلطة الفلسطينية عن مطلب وقفها بإيماءة واحدة من الرئيس الأميركي. واعتبر الأمر ببساطة نصرا لإسرائيل.

غيمة رابعة ضخمة تتجمع في القدس، تتحدى كل فلسطيني وكل عربي وكل مسلم، وبوقاحة إسرائيلية من نوع خاص، تصل إلى حد تنظيم إخراج عائلة من بيتها ليدخلها في اللحظة نفسها أفراد عائلة إسرائيلية.

يصف كاتب فلسطيني يقيم تحت سلطة دولة إسرائيل (ونختاره بهذه الصفة عن قصد)، يصف استيطان القدس كما يلي:

«المسألة لم تعد قصرا على حي من أحياء القدس، بل يطال الاستهداف كل نقطة في المدينة المقدسة، ووفق خطة ممنهجة ومدروسة، وذات رؤى وأبعاد استراتيجية، يتم رسمها لعشرات السنوات القادمة. فالاحتفال بوضع حجر الأساس للمرحلة الثانية من مستوطنة «تسيون زهاف» في جبل المكبر، سبقه الإعلان عن إقامة (104) وحدات سكنية إضافية في مشروع مستوطنة «معاليه زيتيم» في حي رأس العامود في سلوان. وترافق ذلك أيضا مع تسليم عشرات العائلات الفلسطينية في قرية عناتا شمال شرق القدس، إخطارات بمصادرة مئات آلاف الدونمات من أراضيهم لصالح المشاريع الاستيطانية.. إلخ».

القدس، الاستيطان، حق العودة، تقرير غولدستون، كلها غيوم تتجمع في السماء الفلسطينية، منذرة بالعاصفة الكبيرة القادمة على المنطقة. عاصفة سيكون لها عنوانان صاخبان:

العنوان الأول: سقوط قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله، أو بقاؤها مع سبق الإصرار، لتكون نسخة مكررة، ولكن مكبرة، عن ما عرف باسم (روابط القرى) في منتصف السبعينات، تلك التجربة التي أرادت إسرائيل من ورائها إلغاء التأييد الشعبي للقيادة الوطنية الفلسطينية، لصالح قيادة محلية تتمتع برعاية إسرائيل، وقادرة على تقديم الخدمات اليومية للفلسطينيين (أذونات السفر، وأذون البناء.. إلخ). وهي قيادة محلية قاطعها الجمهور الفلسطيني، ثم غابت عن الوجود، لأنها أصبحت مدانة ومرفوضة.

العنوان الصاخب الثاني للعاصفة الفلسطينية القادمة، هو حتمية نشوء قيادة فلسطينية جديدة، قيادة تعلن تمسكها بالحقوق الوطنية الفلسطينية الأساسية. قيادة تقطع الصلة مع نمط المفاوضات السائد مع إسرائيل، ومع نمط الرعاية الأميركية المنحازة دوما لإسرائيل. قيادة تمثل شعبها ولا تحرص على إرضاء أحد غيره. إن بروز هذه القيادة أمر بديهي كما هو أمر ضروري.

وفي سياق احتمال بروز قيادة فلسطينية جديدة في الخارج، لا بد أن نلاحظ الوضع القيادي للفلسطينيين في الداخل (فلسطينيي 1948). فقد أصبح لهؤلاء الفلسطينيين قادتهم وأحزابهم وجمعياتهم وهيئاتهم القيادية. وهم ناشطون الآن في الدفاع عن القدس، وعن المسجد الأقصى. وتتابع إسرائيل هؤلاء القادة ساعية لإدانتهم وسجنهم (عزمي بشارة ـ الشيخ رائد صلاح). ولكن الأهم من كل هذا أنهم ينشطون في الداخل (عكا)، ويعقدون لقاءات شعبية موسعة، تحت شعارات (نعم لمحاكمة مجرمي الحرب. لا لنهج التغطية عليهم. لنحم القدس. لنحم الثوابت الوطنية). إن هذا النشاط حول القدس، وضد المستوطنات، وضد سياسة السلطة الفلسطينية، يمثل وحدة في الموقف تشمل الشعب الفلسطيني كله، ضد كل محاولات إسرائيل لتجزئة الشعب الفلسطيني، وتجزئة مطالبه، وتجزئة الحلول بشأنها. وحين يتحدث كثيرون عن احتمال بروز انتفاضة فلسطينية ثالثة، فإن الانتفاضة الثالثة لن تكون هذه المرة بعيدة عن فلسطينيي 1948، بل ربما يكون لهم دور قيادي فيها. ولعل أبسط مثل يشير إلى ذلك، أنه حين يحل يوم الجمعة، ويستعد سكان القدس لأداء الصلاة في المسجد الأقصى، تستنفر إسرائيل جنودها وشرطتها وجهازها القمعي كله، من أجل منع سكان القدس من التوجه إلى أداء الصلاة، ولا تستثني من ذلك إلا من هم فوق الخمسين. هنا يتقدم فلسطينيو 1948، ويذهبون إلى المسجد بالعشرات، حيث لا تستطيع إسرائيل منعهم، فيملأون القاعات والردهات والساحات بآلاف آلاف المصلين، في منظر ينعش قلوب العرب ويدمي قلوب الإسرائيليين.

إن هذه المبادرة التي تبدو بسيطة، هي في العمق مواجهة (أسبوعية) مع إسرائيل، تؤكد أن أهل حيفا ويافا لا يختلفون بشيء عن أهل جنين ونابلس، وأنه حين تسد إسرائيل الطريق أمام فلسطينيي الضفة الغربية يتقدم فلسطينيو الوطن الأم لأداء الدور الوطني المطلوب، وهو دور سيتنامى بالضرورة حتى إلى مستوى الإسهام في الانتفاضة المقبلة.

إن إسرائيل تعربد الآن، وتحميها واشنطن، وتشعر بالسرور حين تجد أمامها قيادة فلسطينية خانعة. ولكن النذر تشير إلى أن كل شيء قد يتغير في الأيام القادمة، وتعود القضايا الوطنية لتسير في نهجها الصحيح.