الحمد لله.. ليس لي أي جار

TT

الحياة العصرية تكالبت علينا بظروفها وطقوسها ومعطياتها، فأصبح الإنسان شبه مستقل ومنعزلا في بيته، ومنطويا على عائلته ونفسه، لا يعرف جيرانه ولا يتواصل معهم، بل إنه يتحاشاهم أحياناً ويأخذ الحذر منهم، كما أنهم هم أيضاً وكل واحد منهم على حدة يتحاشى الآخر ويأخذ حذره منه ـ إلا من رحم ربي منهم.

هذا الأسلوب أو الإيقاع فرض نفسه مع الأسف على الكل، مع أنه قد يكون الجميع طيبين وخيّرين، غير أن خوف الإنسان من أخيه الإنسان في هذا الزمان الذي لا يرحم أصبح هو المسيطر، وهو الذي يتوقع دائماً أسوأ الاحتمالات، فأصبح المثل القائل: (الباب الذي يأتيك منه الريح سدّه واستريح)، لهذا سدّت وقفلت الأبواب في وجوه بعضنا البعض، وغدا الناس يعيشون في بيوتهم وكأنهم يعيشون في زنزانات.

وقد قرأت عن أحدهم عندما كان صغيراً وهو يقول: كان والدي يحاول أن يحسّن مركزه لهذا كانت طبيعة عمله التنقل، وقد انتقلنا بدون مبالغة إلى أكثر من عشرين مدينة وبلدة، وجاورنا تقريباً كل أنواع الناس، وكانت أمي شديدة الضيق من هذه التنقلات، وكلما تآلفت مع جيرانها انتقلنا إلى مكان آخر وتظل هي تشعر بالوحدة وتتحسر على جيرانها السابقين.

وفي ثاني ليلة من سكننا في منزلنا الجديد، سمعنا طرقاً خفيفاً على الباب، وإذا الطارق سيدة من جاراتنا وقالت بأدب: آسفة على إزعاجكم، ولكنني الآن أقوم بعمل كعكة، ونفد السكر، فهل أجد لديكم قليلا منه، فتألق وجه أمي فرحاً وأعطتها علبة السكر.

بعدها أصبحت تلك المرأة صديقة حميمة لوالدتي، واعترفت أنها في تلك الليلة، لم تكن في حاجة للسكر بقدر حاجتها للتعارف.

وأذكر أننا كلما انتقلنا إلى بيت جديد كانت أمي تبادر بجمعنا نحن أطفالها الستة وتهددنا بالضرب إن نحن أزعجنا جيراننا باللعب، وكانت تأمرني أنا وأخي الأكبر بتحية جارنا العجوز وإجابة ما يكلفنا به دون أية مكافأة، وقد لاحظ هو هدوءنا الزائد عن الحد، فسألنا: أراكم قليلي الجلبة والضوضاء؟!، فقال له أخي: إننا مأمورون بذلك يا سيدي، فقال: كنت أقوم بصنع رشاش كبير للماء في حديقتي، وكان يعاونني فيه ابني الصغير، ولكنه مات، فما رأيكم لو ساعدتموني في إتمامه، ونشأت بعدها صداقة بيننا وبين ذلك الجار الذي أصبح لنا بمثابة الأب، وأحس هو أنه قد حصل على أبناء، إلى درجة أننا بعد أن انتقلنا من سكننا ودعنا وهو يبكي.

وحكى عن جار آخر وفي بلدة أخرى، وهو رجل متقدم بالسن يسكن مع زوجته الكهلة، وخلف بيتهما مساحة كبيرة تقارب النصف فدان، ويزرعها ويكد فيها هو وزوجته طوال النهار، فمررت عليه في أحد الأيام وسلمت عليه قائلا: يا له من عمل مجهد لرجل في مثل سنك، وأنت وزوجتك لا تحتاجان كل هذه الخضراوات.

فأجابني ضاحكاً: إننا نزرعها لجيراننا، فنحن في الواقع لا نزرع الخضر، ولكن نزرع الأصدقاء، قال ذلك ثم أخذ كيساً من الورق وملأه بالخيار والطماطم وقدمه لي.

فهل صحيح أن الإنسان لا يمكن أن يجد جاراً طيباً إلا إذا أصبح هو نفسه جاراً طيباً؟!

مع الأسف أن أغلبنا قد نسي المثل الذي كنا نردده منذ وعينا على الدنيا: (الجار قبل الدار).

الغريب أنه بعد كل هذا الكلام، أنني أسكن بيتاً ليس حواليه أي جيران لا شمالا ولا جنوبا، ولا شرقاً ولا غرباً، وإذا لم تصدقوني اسألوا أي واحد يعرفني وسوف يؤكد لكم ذلك.